التنبؤ الوراثي من أبو قراط الى اليوم |
اكشف عن الماضي، شخص الحاضر، تنبأ بالمستقبل,, تلك كلمات قالها الحكيم اليوناني ابوقراط,, وتنطبق هذه المقولة على الأبحاث العلمية حول الوراثة، التي تشكل محطة علمية هامة، في طريق العلماء لقراءة المستقبل، والتنبؤ في مجالات الطب الوقائي.
لقد أفضت الأبحاث في هذه الأيام الى انه بالإمكان معرفة وتحديد الكثير من الأمراض في ضوء تحليل بقعة الدم لفرد ما ورسم خارطة طبية للعلامات الوراثية الخاصة به,, فضلاً عن تحديد الصفات الوراثية التي تكونه، او التي ينقلها، ويورثها لأولاده من بعده.
وقد شغلت النعجة دولي العالم في بداية العام وتصدرت صفحات الصحف، والشاشات الفضية، وكانت ولادة دولي ثمرة أبحاث طبية، وعلمية تطبيقية في مجال الوراثة, وسوف نقرأ، ونسمع الكثير الكثير في هذا المجال في المستقبل القادم.
***
ومن الأبحاث العلمية الصادرة مؤخراً كتاب التنبؤ الوراثي ترجمة د, مصطفى فهمي، وتأليف زولت هار، وريتشارد هستون, تدور ابحاث الكتاب حول عوامل الوراثة، ومحاولة العلماء متابعة اسباب الأمراض التي تصيب البشرية، خاصة أن الرأي العلمي الحديث يقول: إن الأمراض هي نتيجة تفاعل بين البيئة والوراثة، وانه من الممكن تخفيف او علاج الامراض قبل استفحالها مثل السكري والسرطان، وأمراض القلب والشرايين، وغيرها,.
لقد احدثت الأبحاث العلمية التي قام بها عالم ألماني متخصص بالخلايا ويدعى والتر فلمنغ تغييرات هائلة جدا، وذلك حينما اخذ عينة من خلايا السمندل وصبغها ووضعها تحت المجهر,, فوجد ان المادة الملوثة انفصلت الى خطوط رهيفة ناعمة جدا أطلق عليها اسم الكرموزومات أيّ الأجسام الملوثة ، وهذه الأجسام هي سلاسل طويلة من الجينات التي يرتبط طرف احدها بالآخر, والجينات نفسها تحوي سجلا لماضي الجسم كما تحوي شفرة وخريطة لمستقبله، الأمر الذي يجعل لعلم الوراثة اهمية علمية واقتصادية وسياسية.
تتكون الكرموزومات من خيوط كيماوية طويلة ومجدولة, تتألف من حامض نووي يدعى (د,ن,أ)، وهذا الحامض عبارة عن سلم لولبي مزدوج يدور لولبه بلا نهاية,, واللولب يشكل واحداً من أعقد التركيبات في العلم الحديث، وهو أساس الحياة على الأرض، وأساس تكوين البشرية,, فتصور أيها القارئ الكريم المعجزة الالهية لهذا الكون (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) صدق الله العظيم وهو من الصغر بحيث لا يُرى الا بالمجاهر الالكترونية.
واللولب المزدوج كالسلم له دعامتان جانبيتان تمسكان بسلسلة منتظمة من الدرجات وتتكون من أربعة أنماط مختلفة يحوي كل منها شارة مختلفة، وبقراءتها تتمكن من معرفة ما ينبغي ان يكون، وكيف ينبغي لها ان تتصرف، ثم تتم عملية تحويل المعلومات الموجودة داخل الانماط بعملية معقدة جداً الى بروتينات، وهذه البروتينات هي أساس تركيب الخلية ووظيفتها.
أما الجينات الموجودة داخل الخلية فإنها تنتج بروتيناً واحداً، وتتجمع هذه البروتينات لتساهم في تخليق العيون زرقاء، او خضراء، او سوداء، أو عسلية او,,, او تساهم في تخليق العظام، او الأعصاب، أو لون البشرة، أو,, كما تساهم في انشاء شبكة الاتصالات الهائلة التي تجعل كل اجزاء الجسد تعمل في سيمفونية موسيقية منتظمة, كلٌ في المكان الملائم، والمحدد له، وكل خلية تحوي ما يقرب من مائة الف جين هو رسالة مشفرة كاملة فيها كل المعلومات لبناء وتركيب احد الاعضاء في الجسم بشكل يكاد لا يصدق!!.
والجينات والبروتينات تتفاعل فيما بينها بواسطة تنظيم عملي مباشر عبر شارات دقيقة ومتشابكة بصورة مذهلة فمثلا احتياجات خلية عصبية من البروتين تختلف تماما عن احتياجات خلية تنتج الانسولين في البنكرياس، وايضاً يختلف عن خلية ثالثة في الكبد,, وهكذا,.
وقد استطاع العلماء فك بعض الرموز والشارات، ووضعوا صيغا لمئات الامراض الوراثية، وهذا هو سر التنبؤ الوراثي، وهذه الخاصية مكنت العلماء من اكتشاف وجود احد الجينات او غياب احد البروتينات,.
ولكل منا العلامة الوراثية المناسبة التي تحدد احتمالات اصابته بمرض ما, والحدود الحقيقية للتنبؤ هي في عدد العلامات الوراثية التي تخص مرضا معينا، وفي مدى دقة الاختبارات، التي تكشف عن هذه العلامات, ولكل مجموعة من السكان توزيع خاص للجينات يجعلها عرضة لبعض الأمراض دون غيرها, فمثلاً انتشار مرض البول السكري بين هنود سنيكا في ولاية نيويورك، ويكاد يكون هذا المرض من اكثر المشكلات الصحية المزمنة بينهم.
فجين التليف الحوصلي يحمله كل فرد من خمسة وعشرين فردا من القوقاز الامريكيين، وتزداد نسبة الاصابة بمرض الانيميا بين اليونانيين، والاصابة بمرض حمى المتوسط بين الأرمن.
ويصاب الفنلنديون بما يقرب من خمسين مرضا وراثيا هي مما يندر وقوعه في غيرهم,, وسكان تايلاند تصل أمراضهم الوراثية الى مائة مرض.
وباختصار فكلنا يحمل جينات معينة، وكلنا نمرر ذلك لاولادنا حتى لو بعدت فرص زواجنا من أقاربنا او ممن يحملون الجينات نفسها.
ويتساءل المؤلفان وهما من كبار الباحثين في مجال الوراثة وتطبيقاتها على الحياة البشرية، وكذلك حامض ال د,ن,أ واخلاقيات تصنيع الانسان للحياة، هل هناك علاقة ما بين الوراثة والبيئة؟.
يجيبان: نعم هناك علاقة حميمة، وهذه العلاقة نظرية مباشرة تماما، وعند الممارسة والتطبيق يزداد الوضع تعقيداً، لكن لربما استطاع العلماء الوصول الى هدنة مع البيئة، بحيث تصبح البيئة قادرة على ما يسمى ب(الانتقاء الطبيعي)، وتخلصنا من كثير من الملوثات والأوبئة.
ويختتم الكتاب بسؤال هام: هل هناك أخطار للتنبؤ؟, نعم وقد تؤدي هذه المخاطر بنا الى الهاوية,, فلو عدنا بالذاكرة الى جهود تحسين النسل، فإن أكثر الاحتمالات كانت الابتعاد قدر المستطاع عن ولادة اطفال معوقين، ولو كنا نتبع رأي جمعيات تحسين النسل لكان قد صنف كل من دستويفسكي من المرضى بالصرع، ونيوتن كوخ بالذهانيين، وملتون الأعمى، وبيتهوفن الأصم، وشوبان بالسل,, وكثيرين آخرين من بين غير المرغوب فيهم,.
ولو كانت الأم تحمل بتوأم واحدهما مصاب بمرض، فهل ننهي حياة طفل سليم لنوفر على العائلة الطفل الشاذ، ام نترك الاثنين ليولدا معاً، ونتقبل المصاب من اجل السليم؟!,,
إن التنبؤ الوراثي يزيد كم المعلومات التي بحوزتنا، والتي تزداد كل يوم، وهي انذار أولي لما سيحدث، ولو استفدنا منها كاملة، فإننا قد نتخلص من كثير من الأمراض.
فهل يتابع علم الوراثة مشواره ونصبح نحن القادرين على تحديد او بالأحرى تفصيل اولادنا كما يحلو لنا وكاننا نشتري قميصاً او ثوباً او حذاء,, ام تقع طفرة,, ونستسلم,,؟!
|
|
|