ليس جميلاً أن نستورد زهوراً من الخارج، ونفتتن بمسمياتها ومناطق منبتها وعيشتها، حتى ولو كانت بلون لا لون له,, ليس جميلاً هذا ونحن نعلم أن كثيراً منها تنبت بصفة طبيعية داخل بيئتنا، ليس جميلاً أن نهيىء أنفسنا للاستهلاك حتى في وضع نظراتنا لإلغاء جمال الجمال في طبيعة أرضنا,, كلنا نعلم ذلك، ونعلم أيضاً أننا نعلمه حتى العمق لكننا لا نستطيع أن نحول هذه المعلومة إلى فعل,, ولكن لماذا؟
لماذا التساؤلية المهمشة في الذهنية الفاعلية المحلية,, قد لا تأخذ مكانا مهما في الإدارة الاجتماعية إلا عندي أو عندك أو عند كاتب يهتم بالجمال والبساطة والصدق مثل القاص فالح العنزي الذي يجعل بعفوية حضارية من رؤية الورود المؤطرة داخل إطار معلق وهي مغسولة بالغبار إلى حد يجعل الناظر إليها يعدل من مرزام عمامته ظاناً بأن الميول المنبعث من عدم توازنها يقبع في خلل بين عينيه!
إنك لن تستغرب فعلا فيما ذكرت,, فلكم حرت وأنت تحس بوجع مباغت في ناحية من صدرك دون مقدمات، وأنت ترى في استقامة الشارع أمام عينيك عمود كهرباء مائلاً؟
في مجموعة قصص البارقة ، وأنت تصيح بالتقاطاتها اللمعية والتي لا تتجاوز ضوء الحالات,, سترى أن الكاتب المعتمر للبساطة وعدم التلويح برايات الإعلان عن ذاته، قبل أن يحاول عرض ما يكتب,, لا يريد أن يتحدث عن شيء لا يعرفه، ولا أن يحول ذاكرته كالاحتشاد الفارغ في فقاعة صابون كما جاء في إحدى القصص, فالح العنزي شاب مخلص مع ذاته قبل أن يفترض جمال الإخلاص في الآخرين، ولا يحب أن يغرر بهم عبر لغة المغالطة والزخارف الضبابية التي تصلح لكل المتستريين خلف قناعات الاستعراض أحياناً.
أنظر إلى الإهداء: إلى شخصيات هذه القصص الذين تأثرت حياتهم بالبارقة سواء كانت ممطرة أو بارقة أمل سترى ودون مقدمات أنها تنظر عبر التقاطية دقيقة لأي نقطة ضوء في فضاء معبأ بسواد,, لكننا بحرقة نتساءل أحيانا عن المكان في بعض القصص، فهو لا يتخذ معلماً محدداً، ولا يدير حواسك باتجاه معلوم أو يقتادك إلى وضع معلم له خصائص الموقع عبر شخوصه.
فمرة تجد حواسك وسط بحر يفتقر قائدوه في المركبة إلى وجهة الإبحار,, معهم بارقة الأمل، وبهم كائنية التشبث بدافع المخافة نحو الحياة، وتظل في مؤخرة أبصارهم قرية بعيدة,, لكننا لا نعرف ما يهدينا إلى دليل على ضفة القرية الساحلية، ولا البحر الذي ألقوا بمجرى مركبهم في بُعدٍ عن مراسيه.
أذكرها هنا بقدر حارق من السؤال الملح أو الملحاح أيضاً لأنها تكررت في عدد من قصص المجموعة,, هل فقدت الأماكن نكهات عوالمها إلا في باريس أو سويسرا كما ورد في قصة أحلام,, يجرفها المطر مثلاً، لقد رأينا أنها غير مجروفة في معالمها,, فقط رغب في الاستدلال بمعنى المعالم المكانية، لضرورة أساسية في أي عمل فني,, ففيها القصة إيفل والجوكندا واللوفر ومطار ديجول وبونابرت وتمثال الجندي المجهول الفرنسي، ومعالم أخرى في الحركة البشرية والملبس والطعام والحفلات وأساليب الكرامة المعيشية في طريقة العرض الفني وغيره.
* * *
أما بعدين:
فإنني قد فرحت بهذا الإصدار القصصي الذي أضيف إلى عدد من الإصدارات الشبابية المزهرة في ساحتنا الثقافية,, ولا أحاذر أن أقول بصرف البال عن كبير أو صغير منتجيها بالقياس الزمني للتجربة,, كلها أصبحت تأتينا من مطابع ودور نشر عربية خارجة، فلا أربأ بمؤسسات الثقافة المحلية الرسمية في جانبي التقصير والسير في ذات المكان حيناً وإلى الخلف أحياناً، فهل من جواب خجل بلا جواب أمام واقع الزمن إذا رأينا حقل الزرع يتجاوز بتفاعله مع الأنواء والبسيطة المزروعة عقل إدارة الفلاح وقلبه ومكامن جوارحه,, لا عجب,, لا عجب وإن كنت على عجب من هذا فانظر إلى الزمان الذي لا يفهم مجادلته التطورية غير الإنسان,, هو الذي فكر فكتب وأحس فأبدع فكتب، وضاق فتفاعل فكتب,, ثم بحث عن باب للنشر في الثقافة فما وجد,, فجمع وقدّر وقرر واستدان فنشر وإنه سوف يكتب وينشر في الخارج,, وماذا يفعل، فلا قوة ولا حول!
* مجموعة فالح العنزي البارقة الطبعة الأولى 1999م دار الانتشار العربي بيروت لبنان.