عصر الريادة:
تمر في حياة الامم والشعوب فترات مضيئة تستعيد فيها ادواراً تجديدية في مسيرة التطور الحضاري او تلعب دوراً لم يكن لاسلافها من قبل لتدخل حركة التاريخ وتواكب آخر مستجداته التي لا تتوقف ابداً, ونحن العرب لم نكن خارج حركة التاريخ، بل التاريخ بمعناه الحضاري ولد على ايدي اسلافنا من الشعوب والامم العربية البائدة { والحضارة نشأت اول مرة هنا في بلادنا جزيرة العرب التي تدفقت فيها موجات الهجرة البشرية من الشعوب والقبائل العربية المتحضرة التي بنت اقدم الحضارات في الاقطار المجاورة، الشام والعراق ومصر والتي منها تعلمت مختلف الامم والشعوب في العالم معنى التحضر وبداياته الاولى.
كان لقدماء العرب دور الريادة الحضاري الاول وكانت لهم كرات وكرات في تصدر المسيرة الحضارية العالمية، فاذا كانت الامم تظهر وتختفي فان العرب يظهرون مرة بعد مرة ولا يختفون ابداً.
وكان ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التجديدية والدولة السعودية الاولى بداية عصر تجديدي للعرب والمسلمين، ولكن الدولة السعودية وما قامت به من جهاد عظيم واجهتها صعوبات لم يكن لها قبل بها فسقطت الا انها بالرغم من ذلك هزت مشاعر العرب والمسلمين 1 وتركت آثاراً بعيدة المدى في مختلف الاقطار العربية والاسلامية، حيث ظهرت في الهند حركة السيد احمد في البنجاب والحركة السنوسية في شمال افريقيا والشوكانية في اليمن والشيخ محمد عبده في مصر والكواكبي ورشيد رضا في الشام وجمال الدين الافغاني وغيرها من حركات الاصلاح التي كانت رائدة لعصرنا وهي جميعاً حركات متأثرة بالحركة النجدية 2 وهذه الحركات وان كانت قد تلاشت وخبت الا انها وطأت لما بعدها.
وتأتي الدولة السعودية الثانية كامتداد للدولة السعودية الاولى لكن قوى التخلف والانحطاط في الاقطار المجاورة المتعاونة مع الدولة العثمانية والقوى الاوروبية حاصرتها من جميع الجهات فسقطت ايضاً، ليحمل مسؤولية الريادة بهمة اكبر وطاقة ذهنية اقدر المغفور له الملك عبدالعزيز في دور سعودي ثالث فيتمكن من اختراق حواجز العزلة المفروضة وتحطيم حصون التخلف المستحكم ليُدخل جزيرة العرب المرحلة التاريخية المعاصرة من اوسع ابوابها ويستعيد لها دورها التليد ويصنع لأهلها دوراً يلعبونه في حياة العرب والعالم الحديث,والشيخ عبدالله بن محمد ابن خميس ما كان الا واحداً من فتيان هذه البلاد النابهين الذين تسابقوا في مضمار النهوض الذي اراده المغفور له الملك عبدالعزيز لبلادنا ولأبنائها, وكانت البداية التحاقه في دار التوحيد في الطائف للحصول على الثانوية التي تؤهله للالتحاق بكلية الشريعة واللغة في مكة المكرمة وكان من المتفوقين في الدراسة وكان من الرواد في اعماله بعد التخرج وحتى قبل التخرج.
يوجز لنا الشيخ عبدالله ابن خميس قصة التحاقه في الدراسة النظامية فيقول وفي شبابي افتتحت مدرسة دار التوحيد بالطائف وكنت من الدفعة الاولى التي انضممت اليها وتخرجت منها، سمعت عن الدار اول ما سمعت من صديقي الراحل الاستاذ فهد المارق توفي عام 1400ه - رحمه الله - وكان قد سبقني للالتحاق بها بفترة قصيرة فأشار علي جزاه الله خيراً ان التحق بها واستفيد منها وأصر علي وفعلاً استمعت لنصحيته فتقدمت بطلب للانضمام اليها والدراسة فيها طائعاً مختاراً مع ان الكثيرين من زملائي دخلوها مكرهين { وعندما قابلت مدير دار التوحيد الشيخ الراحل محمد بهجت البيطار العالم السوري المعروف رحمه الله اعتذر عن قبولي لاني لا احمل شهادة او علماً يؤهلني للالتحاق بتلك الدار.
عند ذلك لجأت الى رجل من اهل البكيرية من اهل العلم والفضل هو الشيخ عبدالله الخليفي رحمه الله فأسعفني وذهب الى الشيخ بهجت البيطار وشفع لي شفاعة قوية وألح عليه ليقبلني وقال له بالحرف الواحد انك ستجد منه ما يسرك مستقبلاً فلا تحرمه من الالتحاق بهذه الدار، فقبلني على مضض ولكن بحمد الله وجد مني الشيخ البيطار ما يسره ويجعله يرفع رأسه بي وبمعلوماتي وبالاشياء التي حصلت عليها وكنت رمزاً للعلم والادب والشعر.
درست في دار التوحيد وبعد تخرجي منها التحقت بكلية الشريعة واللغة بمكة المكرمة فأخذت شهادتها وتخرجت وعينت بعد تخرجي مديراً لمعهد الاحساء العلمي بالاحساء 3
وبتتبع سيرة شيخنا الفاضل، فان اول ظهور ادبي له كان من خلال قصائده الشعرية وهو لا يزال طالباً في كلية الشريعة واللغة في ختام عقد الخمسينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي حيث القى احدى اولى قصائده العصماء بين يدي المغفور له الملك عبدالعزيز وهي بعنوان بين يدي جلالة الملك عبدالعزيز :
تهلّل فيك الشعب وأفتر ثغره وأقبل في ثوب الفخار يجرّه وتاهت بك الدنيا زهاءًوأ قبلت يغص بها سهل الطريق ووعره ونادى المنادي عند رؤياك قائلاً تبدّا لنا من ظلمة الليل فجره هَلُمنّ يا فخر الشعوب فشعبكم بطلعتك الغراء يزداد فخره فأنت لآمال العروبة رائد هنيئاً لشعب آل نحوك أمره سلكت لعمري يا أبا العرب مسلكاً يعزّ على من رام علياه قدره ومن ذا الذي في الناس يبلغ شأؤه ولو هامة الجوزاء قد نال أمره اذا ذُكرت للأكرمين شمائل يضائلها من عاهل العرب ذكره وإن يك قرن في الانام مفضلاً فافضل ما بعد الخلافة عصره تدل على عبدالعزيز فعاله وقد طبّق الآفاق بالمجد ذكره وهل ينبت الخطّيُ الا وشيجة وما ثمر الا وينميه بذره مليكي رعاك الله نادِ بأمة يُراجع منها صاحب الفخر فخره وشق لها في عالم العصر مرتقى يُذل لها نجد الطريق ووعره فبالعالم تزداد الشعوب جلالة ويجنبها كيد العدو ومكره فهيا بنا قدماً نواصل سيرنا بعزم له يهوي ويندك صخره لنا بالألي شادوا الممالك أسوة فدونك تاريخ الشعوب يُقّره فياليت شعري اي شيء يعوقنا فيبرز يوماً من فتى العرب عذره لقد بذلوا في العلم غاية جهدهم فراق لمن يستعذب الورد مره تصدّى لها حبر قدير موفق بلوغ أمانيها العزيزة نذره فلله ما أبلى ولله ما انطوى عليه من الإخلاص والنصح سره وان من التوفيق للشعب أن يُرى ينوء بأعباء العظائم خيره فدم للعلى كهفاً وللعرب ملجأ وللدين بالبيض الخفاف تُقرّه وللعلم نبراساً وللفضل موئلاً يجازيك توفيق الإله ونصره 4 |
عندما يدخل ابن خميس الى الغرض من قصيدته هذه مباشرة بتقديم صورة واقعية تنبض بالحياة من المكان عينه وبما يليق بالمناسبة وسيّدها العظيم بدون تكلف او افتعال فانه يقدم نفسه ولاول مرة كشاعر احيائي يلتزم بقوانين الشعر العربي الاصيل واحكامه، ولكن بروح عصرية جديدة وأسلوب مستجد مسخراً حدث المناسبة لأغراض عصرية تتطلبها حاجات الامة وهمومها المعاصرة مع الحفاظ الشديد على هيكلية القصيدة العربية وموسيقاها وأوزانها وعموديتها وبحورها.
وبهذه الخصائص الجوهرية مجتمعة والتي زادت نضجاً مع مرور السنين تبوأ شيخنا الفاضل مكانته بين الرواد في عصر الريادة بالنسبة لبلادنا الغالية، ليس كشاعر وحسب، وانما كرمز ثقافي موسوعي المعرفة والاهتمامات.
ومن قصائده التي قالها وهو لا يزال طالباً في كلية الشريعة واللغة قصيدته الأم مدرسة وقد ألقاها امام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز عندما تولى وزارة المعارف اول ما أُنشئت عام 1372ه, وقد تضمنت هذه القصيدة الدعوة لتعليم المرأة وهي أول مرة تتم الدعوة صراحة الى هذا الجانب من التنمية الاجتماعية العلمية شعراً, 5
رتّل الأنغام لحناً مطربا واملأ الكون بياناً مسهباً يتحدى الطير في أغصانها تبعث الالحان من أعلى الربا رافع الرأس فخوراً يبتغي عن قريب ان ينال الشهبا بعد ان كان مهيضاً خانعاً كلما جدّ به السير كبا يرقب الاقوام سارت حوله معلمات تتحدّى السحبا وهو ينعى عند قومي حظه مشفقاً من وأده مرتقبا فارقبوها نهضة علمية يشهد العالم منها عجبا يُرجع التاريخ فيها نفسه ويشع النور من حيث خبا حينما كنا أساتيذ الورى ولنا الأرض أصاخت حقبا كيف صرنا بعد هذا عالة في خنوع أبلغ السيل الزبى انه الجهل اذا ما حل في عقر دار كان موتاً أقربا يا نصير العلم هل من شرعة تمنع التعليم عن ذات الخبا انها في ذاتها مدرسة إن خبيثاً أنجبت او طيّبا فمعاذ الله ان تبقى بنا دمية للهو فينا تُجتبى واذا ما ثَقِفَت فتياتنا اعلنوا ضد النساء الحربا وانبرى كل يقاسي دهره ويعيش النشءُ فينا أعزبا كيف يرضى عالم جاهلة تقلب البيت جحيماً ملهبا يخرج الاطفال منها صورة إن ينالوا العلم ضلوا الأدبا أنا لا أدعو لأن نخرجها لتحاذي بالرجال المنكبا او تنادي بعقوق أو تُرى هتكت بين الرجال الحجبا إنما الإفراط فيها خطل وكذا التفريط في ما وجبا سنة الإسلام وسط شاء من يبغي التعدي أم أبى يا نصير العلم من أدوائه بيننا فُقد المربّي المجتبى لا يربي النشء إلا حاذق ليس من أملى الهجا او كتبا وبيوت العلم ليست متجراً ملئت أركانه واحتجبا شيّدوها للعلا باذخة يُقبل النشءُ عليها رغبا 6 |
وفي هذه القصيدة لا يدخل ابن خميس الى غرضه مباشرة وحسب، وانما يمضي اليه بوضوح وصراحة تامين مشدداً على حق المرأة بالتعليم يوم كانت المطالبة بمثل هذا الامر تعد مجازفة، وحجته المقنعة انه لا يليق بالمجتمع ان تبقى امهاته جاهلات، مبيناً انه يدعو للعلم النافع وليس الى التحلل ومؤكداً في الوقت ذاته ان في ذلك تحقيقاً لوسطية الاسلام حيث لا إفراط ولا تفريط.
في هذه الالماحة المختصرة تبرز لنا روح ابن خميس الطموحة الوثابة للاصلاح والنهوض وحب العلم وذلك هو النهج الذي روّض نفسه عليه ولايزال, وفيما يتعلق بشاعرية ابن خميس بالذات فانه لا يفوتني ان اؤكد هنا ان موهبة الشعر ولدت معه عندما ولد ولازمته الى الآن حيث يؤكد هو انه كان يتذوق سماع الشعر من ابيه ويطرب له ويتغنى به، وعندما كان حدثا وشاباً وقبل ان يلتحق بدار التوحيد كان يقرض الشعر الشعبي او النبطي ولكنه تخلّى عنه فيما بعد, ويقول انه نظم أول قصيدة له بالفصحى وهو لايزال طالباً في دار التوحيد بالطائف قبل ان يتمكن من اللغة العربية، فكانت فيها عيوب نحوية فأهملها.
الهوامش والمراجع:
* البائدة لفظة تُستخدم من باب الاصطلاح للدلالة على الشعوب العربية القديمة التي انتهت عهودها واندمجت في تشكيلات ديمغرافية جديدة.
1 يقظة العرب ص 80 و 82 و 87 جورج انطونيوس.
2 زعماء الاصلاح ص 21 24 أحمد أمين
* عندما تم افتتاح هذه الدار عام 1364ه، أمر المغفور له الملك عبدالعزيز بترغيب كل من يحمل الشهادة الابتدائية من النجديين - وهم قليل آنذاك - للالتحاق بها وقدم لهم مكافآت مغرية بالنسبة لذلك الوقت فاستجاب البعض للأمر والبعض الآخر ما ذهبوا إلا مكرهين.
انظر كتاب من شيم الملك عبدالعزيز ج 1 ص 331 فهد المارك
3 مجلة قطوف العدد 9 ص 62
4 6 على ربى اليمامة ص 249 و 565 و 567 الشيخ عبدالله بن خميس