عام الألفين وإعلان الرياض عاصمة ثقافية 22 أ.د. ناصر سعد الرشيد |
وحينما تعلن الرياض عاصمة ثقافية كما أعلنت عواصم أخرىقبلها وكما ستعلن عواصم أخرى بعدها فلاشك ان هناك مسوغات تزكي هذا الاعلان وتشهد له، وما أظنه جاء اعتباطاً أو تسلسلا في دور يأخذ مجراه تلقائيا، وأحسب ان من المسوغات المزكيات لاختيار الرياض عاصمة الثقافة للعام الألفين ان الرياض فرضت نفسها ثقافيا على المرشحين في اليونيسكو، فكل شيء في الرياض منذ توحيد الجزيرة على يد الامام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله تعالى واستقرار الانحاء وانتشار التعليم يسيل ثقافة وينضح تثقيفا في كل مجالات الثقافة حتى العامية كالمهرجانات الشعبية والقصيد النبطي، وما أظن الجنادرية ومهرجانها بكل ابعاده (سباق الهجن، الشعر فصيحه وعاميه، المعروضات الشعبية والفلكلورية والعرضات والندوات الكبرى والصغرى التي تهتم بأدب الطفل كما تهتم بالصراع الحضاري والاسلام والغرب ونظام الشورى في الاسلام إلا شاهد ثقافي حضاري على ان الرياض تستحق ان تكون عاصمة الألفين الثقافية.
إن كل شيء في الرياض يكاد يسيل ثقافة وينضح ثقافة ويتنفس ثقافة ويتكلم ثقافة فجامعات ثمان ومدارس لاحصر لها ومراكز ثقافية، وندوات رسمية وغير رسمية، نواد ثقافية، وبيوت ثقافية، بل وخيام ثقافية، كل هذه القنوات الثقافية وغيرها فرضت على اليونيسكو ان ترشح الرياض عاصمة للثقافة في عام الالفين، ذلك العام الخطير الذي اشرت إليه في الحلقة الاولى.
وما أظن هذا الاختيار في هذا العام الالفين جاء مصادفة او اعتباطاً ذلك لان عاصمة الالفين الثقافية يتوخى منها ان تكون بمستوى هذا العام، ولذلك جاءت الرياض، فعلى الرياض في استعدادها الثقافي، أو قل عرسها الثقافي ان تنفر بكل طاقاتها وقدراتها وابداعها لتواكب اختيارها لهذا العام الخطير ولتكون عند حسن ظن من رشحها، ولتثبت للعالم كله انها هي العاصمة الثقافية الاحق، وان اختيارها لم يكن مجاملة أو مصادفة، وانها لقادرة ان احسنت الاستعداد، وأعدت للامر عدته، واستشعرت خطورة ما تقوم به ثقافيا في عرسها الثقافي، ان انظار العالم كله ستتركز على الرياض وعلى ما سنقدمه للثقافة في عام الالفين، العام الذي يمثل قمة العولمة واكثر حلقاتها اشتباكا وأخطر تفسيرها اشتباكا.
ان على الرياض العاصمة الثقافية للعولمة في عام الالفين ان تكون عالمية في رؤاها الثقافية، تكيف العولمة ثقافيا حسب مرجعياتها الفكرية والثقافية بطرح كوني وبخطاب عالمي، وعلى الرياض العاصمة الثقافية للعولمة في عام الالفين ان تعي وهي لاشك كذلك ان المحلية الضيقة لايمكن ان ترضي العولميين، بل تُقعد بالعولمة الثقافية، لان المحلية الضيقة لا يمكن ان تنافس عالمية الثقافية الطاغية التي تخترق حصوننا وخيامنا وبيوتنا وحدودنا الجغرافية وفضاءاتنا وسماواتنا.
إن الرياض التي نرمز بها إلى المملكة كافة: حرميها ويمامتها ودرعيتها وهجرها وتهامتها ونفودها تملك كل مقومات التأثير في طوفان العولمة، فهي تملك المقوم الروحي كما تملك المقوم المادي، ويبقى العمل الصائب والاخلاص، وهما ركنا الانجاز والمنافسة في عالم وعولمة لا ترى سوى الانجاز والمنافسة، وإلا التهميش والاقالة، وإني على يقين ان الرياض لن تقبل التهميش والاقالة وأنها ستأخذ بخيار الانجاز والمنافسة.
وليس معنى هذا ان العولمة نقيض التفرد والتميز، لان التفرد بمعنى ابراز ما تنفرد به ثقافيا وانه لكثير في الرياض وفي اهل الرياض وفي مرجعية الثقافة التي تحتضنها الرياض هو بداية الدخول في العولمة والخطوة الاولى في السبيل إلى العولمة، وما العولمة التي يُبشر بها من قبل بعض ويخوف منها وبها من قبل آخرين في جانبها الاخطر وهو الثقافي إلا ثقافة محلية متفردة أصلا بل هي ثقافة امة تقبع خلف البحار المظلمة سابقا والمنيرة حاضرا، ولكنها تدفع بها لتهيمن على الثقافات الاخرى ولتظهر على فضاءاتها وتبسط تأثيرها على مداراتها، ففي هذه الثقافة المحلية ابتداء والعالمية طرحا وشعارا قيم تفردت بها على ثقافات اخرى وتريدها ان تظهر عليها مثل الحرية والديمقراطية والمحاسبة وحقوق الانسان بمفهومها الثقافي لهذه القيم لابمفهوم الثقافات الاخرى، مع ان هناك ثقافات اخرى قيمها لاتقل تحضرا عن هذه القيم المعولمة التي يراد لها ان تعمم اليوم على انها القيم الصالحة فيما عرف باستراتيجية نهاية التاريخ ان لدى الرياض ممثلة في مرجعيتها (الاسلام) قيما قد تحمل المصطلحات نفسها، ولكنها تستبطن مفاهيم لهذه القيم، مفاهيم مختلفة مفاهيم أنصع، فعلى الرياض عاصمة العولمة الثقافية عام الالفين ان تبرز قيمها الثقافية الربانية بجلاء ووضوح وفخر واعتزاز، وان تثبت لدعاة العولمة الجدد ان عندنا تصوراً ربانياً مختلفاً لهذه العولمة بكل ابعادها الثقافية والاقتصادية والسياسية، تصورا في مفهوم الشورى، وتصوراً في مفهوم الحرية المنضبطة، وتصوراً في مفهوم حقوق الله وحقوق عباده، وتصورا في مفهوم علاقة الراعي بالرعية: مسؤولية ورفقا ومساواة وايثارا وحبا متبادلا تحكمها اغلى صفقة يتخذها المسلم في حياته صفقة القلب البيعة بشروطها وحقوقها والتزاماتها ومسؤولياتها سلما وحربا، اثرة وإيثارا، واحتراما وترفقا.
إننا نريد كل شيء في الرياض ينبجس ثقافة ويشع ثقافة ويتنفس ثقافة عبر انفسنا واخلاقنا وعلاقاتنا وعبر كل وسيلة من وسائل الثقافة رسمية وشعبية وجماعية وفردية ولذلك فإني سأوجه ثلاث رسائل ثقافية للرياض ولمن في الرياض.
الرسالة الأولى ، لرعاية الشباب، وهي اعلى مرفق ثقافي رسمي في الرياض فأقول لها: إنك تتحملين العبء الاكبر في إظهار الرياض عاصمة ثقافية وفي البرهنة على استحقاق الرياض ان تكون ذلك، فعليك بحشد كل الطاقات الممكنة لهذه المناسبة، كل الطاقات: مالية واعلامية وعلمية والاخيرة عندي اهمها جميعا ولذلك فإن رعاية الشباب ولاشك ستتصل بكل مراكز العلم والعلمية للتعاون معها في انجاح هذا الاسبوع وخصوصا الجامعات ومراكز البحوث، وبعض الجهات الرسمية التي تشترك معها في دورها الثقافي مثل وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاسلامية ومدينة الملك عبدالعزيز ودارته ودار الافتاء، ومثل مؤسسات لاتقل اهمية عن تلك الوزارات مثل مؤسسة الملك فيصل الخيرية ممثلة بمركز الملك فيصل للبحوث ومثل مؤسسة الاميرسلطان بن عبدالعزيز الخيرية، ومكتبة الملك عبدالعزيز ومكتبة الملك فهد.
ولا بأس أيضا ان اقترح ان تنفر طائفة ممن يهمها امر الثقافة في الرياض للنظر في اعمال عواصم اخرى كانت قد اعلنت عواصم ثقافية كالشارقة مثلا، وتقوّم تجاربهم وتستفيد منها بما يناسب الرياض وبما يليق بالرياض فإن تجارب الآخرين كنز لا يهمل، لانك ان عدمت منه ما تفيد منه فلن تعدم منه ما تجتنبه وتتحاشاه، وكلا الامرين نجاح وكسب، ولا أخفي سراً إذا بحث بما يخالجني من غبطة وسرور في ان الرئاسة قد وجهت بأن يقام مؤتمر الادباء الثالث في الرياض وان يكون حلقة في سلسلة نشاط الرياض العاصمة الثقافية للعام الالفين، لان قيام مثل هذا المؤتمر في هذه المناسبة سيكون شأنها مهما يتطلع إليه الادباء والمثقفون، ومع اغتباطي فلا اخفي ايضا توجسي من الصمت المطبق والتباطؤ الذي قد لا يمكن لهذا المؤتمر وغيره من النشاط الآخر ان يستحكم امره، ويشتد اسره، فالبدار البدار.
الرسالة الثانية: إلى النوادي الادبية بعامة وإلى نادي الرياض بخاصة: ان عليه مسؤولية الاسهام في هذه المناسبة الثقافية بما يراه من محاضرات وندوات وأمسيات شعرية وابداعية، واعرف ان النادي ممثلا بشيخه عبدالله بن إدريس قد توثب لذلك وبدأ يفكر في كيفية هذا الاسهام، والنادي جاد في ذلك مما سمعته من شيخه في بيته قبيل ايام، وأحسب انه سيدعو إلى مجلس تشاور بين اعضاء النادي ومثقفي الرياض يناقش فيه استراتيجية النادي الثقافية لمواكبة هذا الحدث الثقافي الهام، وأرجو ألا يصاب بالبطء والتواكل، فالوقت قصير والحمل ثقيل.
الرسالة الثالثة :
إلى معالي وزراء الثقافة العرب الذين سيجتمعون في الرياض لاعلان الرياض عاصمة ثقافية نقول لهم: عليكم ان تعوا مسؤوليتكم التاريخية تجاه امتكم واجيالها في عولمة لا ترحم ولا تكل، وان اقل ما تتوقعه الامة منكم ان تصدروا عن توصيات ثقافية مهمة وعلى رأسها وضع ميثاق ثقافي ينهض بالامة ويعيدها الى مرجعيتها الربانية التي بدونها لايمكن للثقافة العربية ان تنافس في خضم العولمة الهائل، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون .
|
|
|