الأديب الباحث عبدالكريم الجهيمان: (12) كنا نؤرخ لأيامنا وسني حياتنا ببعض الأحداث ولدت قبل سنة الرحمة بخمسة أعوام كارهاً للفلاحة كنت أقرأ وأكتب بذائقة الشاعر الذي تطربه القوافي |
*حوار:عبدالحفيظ الشمري
ارتبط اسم الباحث عبدالكريم الجهيمان بالموروث الشعبي حتى أصبح في مكانة مناسبة تؤهله لأن يكون علماً في هذا المجال الثقافي الحيوي والمهم.
وأثمرت جهود الشيخ الجهيمان في مجال الموروث الشعبي عشرة مجلدات من الأمثال، واربعة أخرى من القصص الشعبي إضافة الى تاريخ حافل من المقالات، والدراسات والبحوث التي نشرت في العديد من الصحف والمجلات المحلية، والعربية.
ونحاول في هذا الحوار معه أن نربط تجاربه الادبية والثقافية ومحطات علمه، وتعلّمه بعضها إلى بعض لنصل إلى مايفيد القارىء,, فالجهيمان وكما عرف عنه هو مدرسة أدبية فكرية اسهت في قيام تاريخ الجزيرة العربية ,, فعلى يديه عرف التراث الشفهي للحكاية الشعبية,, وأسهم في تحقيق ، وتدوين مئات القصص والأمثال التي لاتزال الى اليوم مادة قوية ومؤثرة,, تنتظر الاهتمام والمتابعة.
وها نحن وإياكم في الجزيرة الثقافية على قارب أبا سهيل ليبحر بنا إلى عوالم تجربته لنصل جزراً منسية في حياته,, فمن مشهد إلى آخر نطوف معه أفق التراث، والحكايات، والأمثال,, مدفوعين بحب الاستزادة والشغف لان نتعرض إلى سيرته وحياته ومشواره العلمي والعملي فإلى هذا الحوار:
*يعن لنا ابا سهيل كفاتحة لهذا الحديث أن نتساءل عن أهم المحطات التي مررت بها في حياتك,,؟
ولدت قبل (سنة الرحمة) بخمسة أعوام، ربما يكون في عام 1330ه في قرية من قرى الوشم من أبوين فلاحين واستهللت حياتي المبكرة في(الكتُّاب) حتى تعلمت الكتابة، والقراءة ولما بلغ عمري حدود ثلاثة عشر عاماً انتقلت الى مدينة الرياض لطلب العلم على أيدي بعض المشايخ.
*قلت في بداية الاجابة السابقة بأنك ولدت (سنة الرحمة),, هل كنتم تعتمدون هذه الطريقة في التأريخ لامور حياتكم اليومية,,؟
بالفعل كنا نعتمد التأريخ للأحداث، بالأحداث والمواقع ذاتها فكنا نؤرخ للمواليد ببعض الأحداث والوقائع مثل سنة السبلة ، وسنة الجوع، وسنة (الصخونة)، وسنة الدباء، وسنة الغبار، وسنة الرحمة التي أشرت بها إلى مولدي بالفعل.
الا أنني اعتمدت (شخصياً) على التأريخ الهجري لتسجيل وتدوين الوقائع، والمنقولات الشفاهية من أفواه الرواة في محاولة مني لأن أكون أكثر دقة ،اقرب إلى الواقع,.
*ماهي الدوافع الحقيقية لانتقالك من قريتك الى مدينة الرياض,, ترى هل كان انفصال والديك هو سبب رحيلك,,؟
لم تكن هناك اي دوافع خطيرة جعلتني أرحل إلى المدينة,, انما كانت لدي رغبة داخلية لأن أتعلم,, ولم يكن لي في الاساس أي ميول للفلاحة,, اما في ما يتعلق بانفصال والديَّ من بعضهما فلم تتأثر حياتي على الاطلاق، وانما أعطتني انواعاً من الحرية لا أجدها لوكان لم يحدث الانفصال بينهما,, فقد عشت أجواء من الحرية,, تارة عند أخوالي وأخرى لدى أعمامي ووالدي لأعيش بينهم في غاية الحرية,, فقط كان دافعي للرحيل هو طلب العلم شأني شأن قلة من الشباب الذين يشغل بالهم طلب العلم ويؤثر في حياتهم.
*كيف كانت رحلتك الى الرياض؟ وكيف قرأت صفحة الحياة الأولى,,؟
بداياتي الأولى مع القراءة نشأت قبل قدومي إلى مدينة الرياض لغرض طلب العلم,, فقد كنت شغوفاً بالقراءة وكنت أدخل المسجد بعد خلوه من المصلين لأجد الكتاب الذي يقرأ به الامام المواعظ مثل رياض الصالحين و مجموعة الحديث الشريف ,, حتى انني كنت أحفظ ابياتاً ترد في رياض الصالحين وهي لاتزال إلى اليوم محفورة في ذاكرتي.
ولحظة قدومي الى الرياض درست على يدي الشيخ محمد بن ابراهيم، والشيخ عبداللطيف بن ابراهيم، وبعد عام سافرت الى الحجاز بنية طلب العلم,, وعندما وصلت مكة التحقت بحلقات الدين والتعليم حتى استزدت من بعض المعارف,, فكانت الحكومة آنذاك تشجع طلب العلم والسفر الى مكة لتقوي العلاقة بين أقطاب المجتمع، وليكون هناك اندماج وتعارف,, فمنذ ذلك الحين وعلاقتي بالكتاب والكتابة قوية ومهمة.
*ما الذي كنت تنزع إليه في قراءاتك,, هل كنت تنظر الى هذه المؤلفات والقراءات بعين الأديب او المؤرخ او الشاعر,,؟
في البدايات الأولى لعلاقتي مع الكتاب كنت أنظر إلى ما اقرؤه في كتب السيرة، والأحاديث، والآداب بعين الشاعر الذي تطربه الاشعار والقوافي فكنت أتأمل شعرية الاشياء بلذة,, بل كنت ولا أزال أحفظ عشرات الابيات التي كانت تصادفني في قراءاتي لهذه الكتب ولعلي أذكر منها:
إن لله عبادا فطنا
طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الاعمال فيها سفنا
ومازالت علاقتي بالشعر قوية حتى في مايتعلق بجهدي في تدوين الحكايات الشعبية والامثال، فالشعر وعاء لهذه القصص والأساطير والاحاديث.
*كيف يقيم لنا الجهيمان (اليوم) في نطاقه الزماني، وكيف يرى الأمس,, بمعنى هل تغيرت الظروف والأحداث التي تصوغ لنا (يوماً) مغايراً لما يألفه أديب مثلكم؟
لقد تغير كل شيء فما حياتنا اليومية وسواء في ذلك الأمور المادية أو المعنوية أو الفكرية,, بل إن الزمن قد تغير باحداثه الكبيرة التي تمر مر السحاب,,وأعتقد أن هذه الصناعات الحديثة التي تسابق الزمن والتي تربط شرق هذه الكرة الارضية بغربها وجنوبها بشمالها جعلت العالم كأنهم يعيشون في قرية صغيرة يتأثر سكانها بكل حدث صغير كان أو كبيراً,.
ولست أدري هل سوف يؤدي هذا التقارب في المسافات والتقارب في طرق المعيشة الى التقارب في الافكار,, والتقارب الى موازين خاصة تكون حكما فيما يحدث من خلافات فكرية او عقائدية او سياسية؟!
ان الحكم بما سوف يحدث في مستقبل الايام يحتاج الى رصد دقيق لدرجات التطور والتقارب بين طبقات البشر الذين يملأون,, هذا الكون,, وعلى الرغم من ذلك فإنني اؤمن ايمانا عميقا بقول الله سبحانه تعالى : ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك وفي آية أخرى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة .
*سنوات العطاء والابداع والاغتراب, كيف تنظر إليها الآن,,؟
الشدائد هي التي تنجب الأبطال وتبني الرجال حتى يقفوا دون حقوقهم كأفراد وكجماعات ولأمم,, ولايقضي على الافراد والجماعات مثل الترف والاختلاف,, والغربة قد تشعل في المغتربين روح الابداع الذي قد يحلق بالمرء الى اجواء ماكان يستطيع ان يصل اليها لولا ذلك الاحساس بالوضع الذي يعيش فيه,.
ففقدان الحبيب يجعل المرء يحس بالغربة,,وهذا الاحساس يدفعه الى ضروب من الابداع الذي لايجاريه فيه من عاش حالة من الرضا والاطمئنان والدعة في احضان من يحبهم ويحبونه,.
وكم في هذه الحياة من يشتعل ويحترق ليضيء الطريق الى غيره سواء كان ذلك على مستوى الافراد او مستوى جماعات,.
*الشيخ الجهيمان اسم متميز في علم السيرة الشعبية والامثال إلى اي مدى تنظر إلى هذه التجربة من واقع التحول الحياتي المتسارع لمجتمعنا,,؟
هذه الثروة الوطنية التي جمعتها في غضون هذه الحياة التي تغير فيها كل شيء سواء في العادات او التقاليد او طرق المعيشة,, لقد فكرت أن هذه الامثال والاساطير لولم تسجل لذهبت في طوايا النسيان ولفقدنا بفقدها ثروة طائلة متعددة الجوانب,, لأن في هذه الامثال والاساطير تاريخ لحياة آبائنا وأجدادنا التي نعتز بها لما فيها من صدق وأصالة وحكم بالغة وتجارب متنوعة منها البالغ في الحدة والمرارة ومنها المليء بالغبطة والسعادة والرضا,, ومنها ماهو بين هذا وذاك، وفيها او في بعضها على الاقل تسلية تروح عن النفس,, من بعض هموم الحياة التي تتكاثر على الافراد والجماعات كلما تقدم بها الزمن الذي هو زمن العجائب والغرائب والتحولات السريعة التي قد تباغت المرء دون ان يحسب لها اي حساب.
*بوصفكم رائداً في هذا المجال الثقافي والمعرفي المهم,, ترى هل ستؤثر هذه المطارحات والمؤلفات في سير الكتاب العربي,, بمعنى هل ستزهو المكتبة العربية بشيء من هذه الجهود التي تؤرخ وترصد وتوثق للسيرة والقصص الشعبي,,؟
لقد وهبنا الله سبحانه ثروات متعددة,, ومن اهمها في نظري الثروة الفكرية والثروة المادية,, اما الثروة الفكرية فهي تتمثل فيما تركه لنا الآباء والاجداد من تجارب عريقة ؟ في تضاعيف القصص والامثال,, التي اعتبرها أنا شخصيا هي التأريخ الصحيح لمجتمعاتنا السابقة,, لأنها لاتدخلها الاهواء والاغراض والعواطف الشخصية,, او الانفعالات البشرية التي تسلب قوما محاسنهم وتنسبها لقوم آخرين,, كما أنها قد تصف بعض الفئات ببعض المساوىء التي هم بريئون منها,, براءة الذئب من دم ابن يعقوب,!!
هذه الامثال والقصص مؤرخ لمجتمعاتنا بشكل مختصر مفيد,, فهي في نظري مثل الفلكلور إنه لايحتل الا مساحة صغيرة ولكنه يحمل في طواياه معاني كثيرة تغني عن كثير من الصفحات والثرثرات التي فيها خرط ومرط,, وقد لاتخلو من السفسطات والمغالطات التي لايميز صحيحها من سقيمها إلا الافذاذ من النقاد العارفين ببواطن الامور وظواهرها,.
والتأريخ الذي اعنيه في الامثال والقصص قد تفهمه من كلمة عارضة او اشارة عابرة,, او فحوى من اسلوب خاص في بعض التعابير التي تدل على الاحداث بطريق الاشارة والتلميح الذي لايخفى على ذوي الافكار اللماحة,, وقد قالوا: إنه رب اشارة ابلغ من عبارة!!
*ما رأيك بما نكتبه اليوم للتاريخ؟ وما الذي سيجده المستقبل فيما يقدمه المبدع لدينا,,؟
التأريخ كالبحر المتلاطم الأمواج,, فيه الغثاء، وفيه الزبد,, اما الحقائق فهي في الغالب مغطيات بالغبار والضباب الذي يحجبها عن كثير من الانظار,, ولايكشف تلك الحجب الامن اعطاه الله نظراً ثاقباً وفكر لماحاً يخترق تلك الحجب ويميز بين الغث والسمين والصحيح والسقيم,, وذلك بالاستئناس بما سنه الله من النظم الكونية التي تنظم هذه الحياة وتتحكم في مصائرها,, وهذه التحفظات التي ابديتها ليست للتأريخ فقد بل قد تمتد الى جميع مايقال اويكتب في هذه المخطوطات التي منها مايموت في المهد ومنها مايعيش كسيحا فترة من الزمن ,, اما الذي يكتب له البقاء فهو يعتمد على الحقائق التي يقرها العقل وتتمشى مع سنن الحياة ونواميسها التي يعرفها الراسخون في العلم,!!
*هل لفت انتباهكم اسماء باحثين وأكاديميين نتطلع منهم أن يخدموا التراث الشعبي؟
في الوقت الحاضر لم اطلع على شخص من الاكاديميين او من المثقفين الذين يستطيعون ان يحللوا ويشرحوا هذا التراث وان يستخرجوا مافي باطنه من عبر وعظات وتجارب واقعية من اناس مارسوا هذه الحياة,, وذاقوا حلوها ومرها,, وخاضوا احداثها بصبر وشجاعة قد لايخطر بعضها على البال,.
ولكن هذا التراث الشعبي سوف تزداد قيمته كلما تقدم عليه الزمن وسيحتاج الباحثون الى الغوص في اعماقه ليستخرجوا من تجاربه مايضيء لهم الطريق في حاضرهم ومستقبلهم,, فالحياة تجارب وقد قيل من سبقك بيوم سبقك بتجربة,, والسعيد من استفاد من تجارب الآخرين ولم يتعرض لمثل ماتعرضوا له من معاناة وشدائد قد يكون بعضها فوق طاقة البشر فتجرفهم تيارات الحياة,, وتكون حياتهم موعظة للمتعظين وعبرة للآخرين!!.
(وللحوار صلة)
|
|
|