بدايات محمد عبدالرزاق القشعمي |
3
عندما يأتي الربيع يذهب عم الفتى إلى البر لجمع الحشائش مثل العرفج أو الصبط أو النصي وغيره، حيث يقوم بحمله على الجمل متجهاً إلى المدينة الرئيسة التي كانت تسمى البلاد , أما قبيل فصل الشتاء فيذهب مع غيره من الجماميل لجلب الحطب وبيعه في المدينة, وهذه العملية تستغرق ما بين أسبوع إلى عشرة أيام، فقد يكون مع الجمَّال أكثر من جمل إذا كان ميسوراً أو يكتفي بواحد على قد حاله ، يفرح الفتى كثيراً إذا ذهب لكونه لن يأتي خالي اليدين، بل سيحضر طعاماً وملبساً وغيره, يذكر أنه قد أحضر له ذات يوم جربوعاً مكسور إحدى الرجلين لا يعرف متى لفظ أنفاسه، وهل وضع بثلاجة أو قد يكون تعرض لتسمم, كل ما يتذكره أن والدته شوته له وأكله بلذة شديدة، ذات مرة بعد أن جلب حمولة بعيرية في المدينة أحضر معه بخص وهو عبارة عن قوائم البعير بعد ذبحه وعزل اللحم عنها، ولم يبق منها سوى العظم وقليل من العصب، يبقى العظم قطعة واحدة من القدم وحتى الورك في حدود ثلاثة أو أربعة أمتار، فيكون قد مضى على ذبح الجمل الفاطر حوالي أسبوع، ومدة السفر من المدينة للقرية تستغرق يوماً كاملاً, عادة لا يصل العم إلا ليلاً، حيث ينام الأطفال، وعندما يستيقظون يعرفون بمجيئه، إما بصوت البعارين وهي ترغي أو بصوت عمهم وهويتفقد النخل، أو بحركة وبهجة أمهاتهم وهن يسحبن عظام الجمل البخص إلى البئر القليب لتربط بحبل طويل وتدلي إلى أن تصل الماء فتبقى من الصباح وحتى صباح اليوم التالي فيخرجها عمهم ليتم تكسيرها إلى قطع متوسطة فتوضع بالقدر الكبير الحجري فتوقد عليها النار من الصباح إلى المساء أي لا تقل فترة بقائها على النار عن عشر ساعات وأحياناً أكثر, بعد المغرب، يبدأ الاحتفال بتقسيم العظام وما علق بها من عصب وأحياناً تقسم إلى قسمين بحيث يقدم للرجال القسم الأكثر والذي يوجد به العصب الأفضل، وما بقي فللأطفال, أما النساء فلهن البواخ، أو كما يقول المثل الطبّاخ يكفيه البواخ أي ريحة المطبوخ، أو ما سيبقى من الرجال ونادراً ما يبقى منهم شيء إذ يكون قد مر على أهل القرية شهور على رؤية اللحم، فهم عادة لا يرونه إلا في عيد الأضحى أو عندما تتعرض أحد الجمال أو الغنم لمرض لا تبرأ منه مما يستدعي ذبحها وتوزيعها على البيوتات القليلة بالقرية، كثيراً ما يصيب أحدهم أو أغلبهم الإسهال أو القيء الشديد بعد أكلهم اللحم فيقولون متغيّر وهي مأخوذة من الغيرة فيمرض الواحد ويشفى بدون أي علاج، وغالباً ما يمنع الطفل من أكل التمر عند وجود اللحم حتى لا يتخم يتغير ، أما إذا جاء ضيف مهم جداً يستدعي أن تذبح له رخلة أو نعجة فهذا يُعد من المناسبات المشهودة، صحيح انه لا يبقى لهم إلا الفتات، إذ بعد أن ينتهي الرجال من تناول غدائهم أو عشائهم الدسم يعود الباقي إلى الحريم، ليعطين الأطفال بعضاً مما بقي ويأخذن الباقي.
أما إذا مضى قرابة الشهر على انقطاع الإدام وأصبح العيش الجريش ، أو المرقوق حافاً بدون سمن أو ريحة لحم أو عظم فتذهب عمته إلى المكان الذي لا يذهب إليه غيرها فهي المسؤولة عنه والموجود بالطاية وهي الغرفة الوحيدة المقفولة دائماً فوق السطح، عند صعودها مع الدرج لتحضر طُعماً للغذاء إذ حل ضيف بشكل مفاجئ فيتسلل الفتى خلفها فتفتح الغرفة وتتناول شيئاً مدلا بالسقف وإذا هو كرشة خروف يابسة جداً بداخلها بقايا من شحم الخروف ذو رائحة نفاذة تسمى المحزره ذلك الشحم من بقايا إحدى مناسبات الأعياد أو الزواجات السابقة فتأخذ منه بكفها، وتغلق الكرشة وتعيدها إلى مكانها، أو تأخذ من شيء آخر وهو القفر أو القديد وهذا لا تأخذ منه إلا إذا كان الضيف مهماً جداً، وأقل درجة ممن يذبح له.
يذكر الفتى أنه ذهب مع والدته وهي تروس الماء وتعدل السواقي ليشرب الزرع، فأخذ المسحات ليقلد والدته، وعندما هوى بها على الأرض وإذا بها تقع على قدمه مما تسبب في انسلاخ الجلد من أصابع قدمه وحتى ساقه، وعندما بكى اسكتته أمه طالبة منه أن يبول على قدمه حتى يتوقف نزف الدم، وهكذا فعل، ثم وضعت عليها قليلاً من الكحل فربطتها بقطعة قماش حتى شفيت بعد أيام.
وفي أحد مواسم الزرع الذي صادف نهاية الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين قل وجود ما يؤكل من قمح وغيره فمر صيف كامل لا يؤكل فيه سوى القرع والماء لا يضاف له سوى الملح، بعد هذا الصيف زارهم والده وكان معه كيس رز وكان أهل القرية يسمونه طبيخ وكان أول مرة يذوق هذا الشيء الأبيض فيطبخ منه مرة وتحفظه عمته بالغرفة للطوارئ أو لقدوم ضيف أو لعيد وغيره, كما أحضر أخوه الكبير عند زيارته القرية قليلاً من السكر والشاهي من الرياض، فبعد تناول القهوة وكانوا مجتمعين في القهوة وهي الغرفة المخصصة لاستقبال الضيوف في مدخل المنزل، طلب من أحد أبناء عمه غسل الدلة ففك ما ربط بطرف غترته واذا هو شيء أبيض قال له شكر وآخر أسود دعاه شاهي فغلي الماء فتولى أخوه اكمال اللازم، وهو لم يسبق أن ذاقها قبل هذا واستغرب الفرق في المذاق بين القهوة التي كانت أحياناً والدته تذيقه شيئاًمنها عندما لا يوجد بالقهوة الغرفة رجال وتدلله والدته بأنه سيبلغ يوماً مبلغهم، وجد لذلك الشراب الشاهي طعماً حلواً، ولكن للأسف الدلة صغيرة والموجودون كثيرون فكان كلما انتهى ما بداخل الدلة (1) أضافوا لها ماء جديداً وأعيدت إلى النار لتغلي مرة أخرى فيضاف لها قليل من السكر يدعونها قهوة حلو وعندما غلي الشاهي لأكثر من أربع مرات يذكر الفتى أنهم قاموا بالتخلص مما بداخلها، وأفرغوا التول باقي الشاهي والذي علق به قليل من طعم السكر فكان الأطفال يتسابقون وهم معهم ليمصوا الشاهي بعد افراغه على الأرض.
(1) إذ لم يعرف الابريق بالقرية بعد.
|
|
|