لما هو آت الأسئلة د, خيرية إبراهيم السقاف |
حسبت يوماً أن الذي يخنق هي الدموع وحدها,,.
وحسبت يوماً أن الذي يقتل هو حبل المشنقة,,.
لكنني أدركت يقيناً، بأن الأسئلة تخنق، وبأن الحيرة التي تشكلها هي حدُّ المقصلة الذي يقتل,,.
اليوم لا أدري لماذا تراقصت الأسئلة في رأسي، كوّنت فيه سرباً كسرب الطيور المهاجرة، التي تتزاحم عند فوَّهات الفضاء، فتسد الرؤية على امتدادها عن متابعة زحف الغيوم، والسحب,,، هذه الأسئلة لم تكن تخرج من رأسي، ولأول مرة أدرك أن مساحاتٍ أخرى تركض فيها الأسئلة هي الصدر,,.
حركة غريبة دبت في صدري، دبيب الأسئلة فيه كان عنيفاً كدبيب النحل فوق قرص الخلية، لله ما أشبه الأسئلة بالنحل,, بالطيور,, وبماذا أيضاً؟
تخيلت الجروح حينما تتقاطر حولها كريات الدم تأكل فيها وتدب لتضع حولها طوقاً من الأمان,,، تدب وتتحرك كأنها المرجل تدافع عن جوانية الجسد، لكن الأسئلة وهي تتقاطر، وتدب، وتحوم، وتأكل، وتتحرك في الصدر وفي الرأس، لا تمنح الأمان، ولا تحقق الاطمئنان فيهما,,، إنها تحرق كل ذرة للاطمئنان، تتخلى معها كوامن الهدوء عن عرشها ، وتسقط لها خمائل السكينة، تسقط واحدة واحدة منهما حتى تتعرى أشجارهما عن أوراقهما,, هكذا بدت مساحات الصدر والرأس بين زحام كصفحة الفضاء بطيوره، وخلية النحل به، وبين عراء كغابة أكلتها النيران، وتساقط عنها شجرها، وتبدل فيها خضارها,,.
الأسئلة تيار مخيف حين تحاصر الصدر، بمثل ما هي تيار ساحق حينما تتقاطر على الرأس,,, وهذا الإحساس يذهب بين الرأس والصدر في حركة سحق لا تختلف عن البذور بين حافتي باطن حجري الرحى,,، تتفتت حروف الاستفهام حرفاً حرفاً، تتناثر ، وتتباعد، وتتكسر، وتُذر، وتذوب، وتُسحق، وتُطحن، وتتلاشى، (لماذا، وكيف، وما السبب، ومتى ، وإلى أي، وإلى أين، وهل ، وأي،,,, و ,,,) وتعود تتجمع في حركة سربية كسرب الطيور، لتعاود الاستفزاز لكل مساحة راكدة في الصدر، أو هادئة في الرأس,,، الأسئلة تعاود رحلة الزحام ، وتُفتح لها بوابات الصدر والرأس ,,, دون أن يظل الإحساس معتقلاً بين حجري الرحى:
الذي يعيش لحظة بلحظة مع الحياة يعرف هذا,,.
والذي يمارس طقوس التفكير العميق,,, يدرك هذا,,.
والذي يعاني من الفقد يحس بهذا,,.
والذي دأبه البحث والحس يعيش هذا,,.
والذي يحب ، والذي يكره، والذي يتعلم، والذي يُعَلِّم يعرفون ذلك.
والذي يتأمل لا يغيب عن هذا,,.
وكل الذين يركضون في تفاعل مع معطيات الحياة، وأخذها تعرفوا على الأسئلة، وتعايشوا معها، وبنوا لها قصوراً، وشيدوا لها بيوتاً، واستضافوها فوق طاولات غذائهم ، وأطعموها من أرغفة خبزهم، ومزجوها مع قطرات شربهم، وصاحبوها فوق وسائدهم ، ومارسوا الحديث معها وهم يتقلبون في فراشهم ، وتناجوا معها في طرقاتهم، ووضعوها أساور حول معاصمهم، وضمنوها حقائب أعمالهم، ورافقوها في خطواتهم,,, منحوها مساحات أزمانهم، وساحات ركضهم,,, في حلهم، وفي سفرهم، في كل مساحات أزمانهم وألوانها,,.
الأسئلة هي القاعدة التي منها ينطلقون,,، وعنها يصلون، وبها يكتشفون، ومن أجلها يكافحون، هي مفاتيح كل شيء لكل شيء.
هي مفتاح العلم,,.
وهي مفتاح البحث,,.
وهي مفتاح العطاء,,.
وهي مفتاح البناء,,.
وبها الوصول إلى الأبواب,,, أيها تُغلق، وأيها تُوارب، وأيها تُفتح، وأيها تُلغى، وأيها تَبقَى,, ، أيها تُولج، وأيها تَحُدُّ دون الولوج,,.
الأسئلة هذا السرب من الطيور المهاجرة,,.
وهذه الذرات من الأمواج الصافية,,.
وهذه الخلية من النحل الراقص,,.
هي التي تخنق بأكثر مما تخنق الدموع,, وهي التي تقتل كما يفعل حبل المشنقة، وهي التي تولد الحيرة,,.
لكنها في النهاية هي التي تمسح الدموع، وهي التي تعيد الرأس إلى كوامنه، والصدر إلى سكينته,, وتبدأ بها لبنة البناء، وخطوة الفرح.
حين تجد إجاباتها,, بمثل ما تنتهي حروفها,.
وحين تتزيّا المساحات، والمسافات، والأزمنة بألوانها بطمأنينة الجواب، وسكينة النتيجة,,, على أية حال تكون,,, حين تكون.
|
|
|