منذ ضم الروس مناطق الشيشان لم يكن هناك علاقة مودة بين الطرفين, فبعد الاحتلال الروسي لمناطق القوقاز التي تقع فيها الشيشان حذر الحاكم الروسي لتلك المناطق حذر القيصر الاكسندر الاول من ان تمسك الشيشان بالاستقلال يغذي روح التمرد عند كل القوميات المنضوية تحت لواء الامبراطورية الروسية بل إنه قال: (لن يكون هناك سلام ما دام هناك شيشاني على قيد الحياة) وهذه المقولة توضح النزعة الوحشية والظلم الذي أوقعه الروس على الشيشان منذ القدم,, وطوال فترة حرب القوقاز من 1817 إلى 1864 لم تتمكن روسيا من فرض سيادتها بالكامل على منطقة الشيشان, وبعد ان اعتلى البولشفيك الشيوعيون سدة الحكم استمروا على سياسة اسلافهم القياصرة رغم وعودهم في بداية الثورة باعطاء الشيشان الاستقلال, في سنة 1943 انشئت منطقة حكم ذاتي للشيشان داخل الجمهورية الروسية لكن الشعب الشيشاني اصر على المطالبة بالاستقلال الكامل وقاوم المد الشيوعي فأمر ستالين بتهجير الشعب الشيشاني الى سيبيريا وكازاخستان مدعيا تعاونهم مع النازيين الالمان اثناء الحرب العالمية الثانية, ورغم المعاناة وإغلاق المساجد لم يفقد الشيشانيون رغبتهم بالاستقلال, وفي عام 1957 سمح الزعيم الشيوعي السابق خروتشوف للشيشان بالعودة إلى اراضيهم وايقاف أوامر التهجير والتشريد.
بالنسبة للازمة الحالية فهي تعود إلى العام 1991 عندما انهار النظام الشيوعي السوفيتي واعلنت الجمهورية المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي استقلالها، عندها أعلنت الشيشان ايضا استقلالها, لكن الشيشان لم تكن احدى الجمهوريات المكونة للاتحاد السوفيتي انما كانت جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي داخل جمهورية روسيا الاتحادية, ويتميز الشعب الشيشاني بنزعته الاستقلالية وتدينه اكثر من بقية شعوب القوقاز, لقد انتخب الشعب الشيشاني الجنرال جوهر داوديف رئيسا للجمهورية الذي اعلن تطبيق الشريعةالاسلامية، وكان الجنرال داوديف ضابطا مميزا في الجيش الروسي حيث رفض تنفيذ الاوامر التي صدرت له بقمع استقلال جمهوريات البلطيق عن الاتحاد السوفيتي قبل الانهيار الشيوعي مما يدل على نزعة انسانية لدى هذا القائد, بعد الانهيار الشيوعي اغضت موسكو بقيادة يلتسن زعيم روسيا الاتحادية النظر عن الاستقلال الشيشاني حتى تستقر الاوضاع لحكم يلتسن وبعد مرور حوالي ثلاث سنوات على حكم يلتسن وقيام جمهورية روسيا الاتحادية قررت موسكو القيام بحملة للقضاء على جمهورية الشيشان واعادتها الى الحظيرة الروسية, لكن الشعب الشيشاني بقيادة زعيمهم داوديف كان بالمرصاد للحملة الروسية واستطاع رغم الفارق الكبير في الاسلحة والعتاد الصمود لفترات طويلة امام الحملة الروسية الشرسة, لقد شن الشيشان حرب عصابات وكانت حملة استنزاف مريرة ضد روسيا مما اضطر يلتسن لقبول خطة للسلام في الشيشان بوساطة رئيس جمهورية تتارستان الروسية، وخلال مفاوضات السلام قامت الطائرات الروسية بضرب مقر الرئيس الشيشاني بالصواريخ مما نتج عنه مقتل داوديف, بعدها تولى قيادة الشيشان احد انصار الحل السلمي للمشكلة وهو سليم خان يندرباييف, لكن مسعادوف وهو أحد انصار داوديف اصبح قائدا للجيش ونتيجة لضغوط الانتخابات الروسية طلب يلتسن من يندرباييف الحضور إلى موسكو ووقع معه اتفاق سلام تنسحب بموجبه القوات الروسية وتنظم انتخابات في الشيشان يتحدد بموجبها مستقبل الشيشان.
وبعد الاتفاق اخذ الرئيس يلتسن يعلن انتصاره في الشيشان وهزيمة المتشددين هناك ليعزز من صورته كرئيس ناجح لروسيا قبل الانتخابات, وبعد الانتخابات وانتصار يلتسن فيها نقض وعوده وألغى الانسحاب واعاد تمركز قواته في غروزني لحماية حكومة الحكم الذاتي الموالية لموسكو معتقداً انه وبعد مقتل داوديف وانتصاره في الانتخابات ستنتهي المشكلة الشيشانية لكن القوات الشيشانية بقيادة مسعادوف ونائبه باسييف شنوا معركة استعادوا بعدها مقاليد الامور في غروزني, وقامت القوات الروسية بعدة هجمات لاستعادة غروزني ولكنها كانت كلها فاشلة, ولجأت روسيا الى دك غروزني والقوى الشيشانية الاخرى بالطائرات والمدفعية مما نتج عنه خسائر كبيرة بين المدنيين، وفي ظل هذه الازمة والخسائر التي لحقت بالقوات الروسية كلف يلتسن مستشاره لشؤون الامن القومي الجنرال ليبيد بتولي مسؤولية قضية الشيشان.
وليبيد من انصار الحل السلمي للقضية وتوصل إلى اتفاق سلام في عام 1996 نص على انسحاب القوات الروسية من الشيشان وتعهدت روسيا بعدم استخدام القوة لحل اي ازمة تنشأ بينهما وبين الشيشان وبعدم تدخل روسيا في الشؤون الداخلية في الشيشان على ان يتم تأجيل مسألة الاستقلال الكامل إلى عام 2001م, وبموجب هذا الاتفاق ساد السلام في الشيشان على امل الحصول على الاستقلال الكامل سنة 2001 إلا ان سلمان باسييف احد قادة الشيشان قام بمعاونة بعض الثوار المطالبين باستقلال داغستان المجاورة للشيشان في منتصف عام 99 (ولا تحظى قضية الانفصال عن روسيا بنفس الحماس في داغستان مقارنة بالشيشان) فقامت الحكومة الروسية بزعامة رئيس وزرائها الجديد بوتين بضرب القرى التي ينطلق منها الثوار بالطائرات وبطريقة عشوائية مما نتج عنه قتل آلاف المدنيين الابرياء في داغستان, ثم وقعت تفجيرات ضخمة في موسكو وادعت الحكومة الروسية انها من تنظيم المقاتلين في داغستان انتقاما لقتلى الغارات الجوية الروسية ولم يثبت بما لا يدع مجال للشك مسؤولية ثوار داغستان وقادتهم من الشيشان عن تلك التفجيرات الارهابية, واستغلت الحكومة الروسية بقيادة بوتين وبمباركة يلتسن الغضب العارم الذي اجتاح الشعب الروسي ضد الارهاب ووجهته ضد المطالبين بالاستقلال في داغستان والشيشان وقامت بحملة عسكرية جوية وبرية لاستعادة المناطق التي حررها الثوار في داغستان ثم استمرت في الهجوم على الشيشان بزعم مطاردة بقايا الارهابيين وبذلك عادت القوات الروسية إلى الشيشان مخالفة اتفاقية 96 بل انها بدأت حاليا بعدم الاعتراف بشرعية الرئيس الشيشاني مسعادوف الذي كانت روسيا قد اعترفت به رئيسا على الشيشان من قبل, وتقف القوات الروسية حاليا على مشارف غروزني إلا انها تخشى تكرار الهزيمة التي منيت بها سنة 96 في غروزني, ويحاول بوتين الحصول على ما يشبه انتصارا كاملا وساحقا في الشيشان يظهره ويظهر الحزب الحاكم بمظهر الحزب الروسي الوحيد القادر على قيادة روسيا مما يعزز من فرصة الحزب في الانتصار في الانتخابات البرلمانية في الشهر القادم.
ورغم المآسي الانسانية التي نتجت من الحملة الروسية حيث علق اكثر من 200 ألف انسان على الحدود الشيشانية الانغوشية في العراء وتعرض غروزني للقصف اليومي الذي نتج عنه مقتل المئات من الابرياء إلا ان المجتمع الدولي يقف صامتا امام ذلك,, ويبدو ان القوى الدولية تحبذ فوز حزب يلتسن في الانتخابات القادمة.
ان القوات الروسية قد تستطيع دخول غروزني واحتلالها وقد تعلن القيادة الروسية سحقها لقوى الارهاب وللقوى المطالبة باستقلال الشيشان مما يعزز من فرص فوز حزب يلتسن إلا ان القوات الروسية ستخوض حرب عصابات طويلة سيتبين اثرها بعد اشهر قليلة اي عندما يحين موعد الانتخابات الرئاسية منتصف عام 2000 وعندها قد يخسر بوتين منصب الرئاسة نتيجة لفشل سياسته في الشيشان.
وفي ظل المشاورات السلمية والمفاوضات الدبلوماسية مازالت القوات الروسية تحاول استعادة غروزني بالقوة ومهما كان الثمن.
ولكن الشيشان يقفون بصمود امام الهجمات الروسية رغم الخسائر المدنية العالية والقصف الروسي الوحشي ولكن وكما قال تعالى: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون) وسيستمر الشيشان بحول الله بالمقاومة حتى تقتنع روسيا بالحل السلمي للقضية واعطاء الشيشان كافة حقوقهم المشروعة وبما لا يضر بالمصالح المشروعة الروسية في الشيشان.
ودول العالم الاسلامي تتابع باهتمام قضية الشيشان وتطالب روسيا التخلي عن اسلوب العنف والوحشية والالتزام بالاتفاقات السلمية ومراعاة حقوق الانسان وصرف النظر عن الحسابات الوقتية، فالشعب الشيشاني ليس لقمة سائغة يعزف عليها يلتسن وبوتين كلما ارادا الفوز في الانتخابات مضحيين بحياة آلاف البشر من شيشان وروس ولن تستطيع روسيا مهما بلغت من قوة تحدي الارادة الشعبية المقرونة بحماس اسلامي عارم.
أما الجمهوريات الاخرى في القوقاز فيبدو انها لا تمانع ببقاء نوع من الارتباط مع روسيا في الوقت الحالي, اننا نطالب روسيا بضروة الالتزام باتفاقية 1996 وحل المشاكل بما فيها التعاون للقضاء على الارهاب بالطرق السلمية كما نرجو من القوى العالمية (التي لها ثقل كبير في حسابات القيادة الروسية) التدخل لمصلحة حل سلمي وشامل للقضية,>صمت العصافير
|