المثقف,, ذلك الوعي المأسور بوهم الاختلاف!! (1 - 2) محمد الحرز |
لا تطرح مسألة الحوار الثقافي - على افتراض انها كذلك - في ساحتنا أيّ مؤشرات، تدل على عمق المسألة، وجدية استولاء الاسئلة حولها، وجدّية توجيه التفكير اليها بصورة تؤدي:
أولاً: الى الوعي بضرورة المسألة بوصفها احد المرتكزات الأساسية في انتاج المثقف (الديمقراطي).
ثانياً: الوعي بالمسألة على اعتبار انها مبدأ فعل وحركة، وليست مبدأ تنطير وكلام، وهنا يأتي الفرق الشاسع بين ما يطرح من تنظيرات حول المسألة في خطاب المثقفين، وبين الشروع عملياً في تطبيقاتها عندهم على الذات والمجتمع سواء بسواء، وقد يبدو للوهلة الاولى، ان مفاهيم مثل الحوار، والتثاقف، والاختلاف، واحترام الرأي والرأي المضاد، تمثل في مجملها سمات تكوينية للمثقف العصري، بل انه الرهان الوحيد الذي يمتلكه هذا الأخير في تدعيم مقولاته الكبرى عن التطور الحضاري، والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وربما لم يذهب في رهانه هذا، الى الحدِّ الذي يترجمه الى معطى واقعي وملموس، او مرجعية معرفية، وليست ايديولوجية، تسمح له بأن يمارس وعيه الطليعي (حسب اعتقاده وتصوره) على خلفية تغايريه، ايّ تستجيب لمبدأ التغير ونسبية الثوابت في المناهج والمعارف والحقول العلمية بشتى فروعها، وهذه اشبه ما تكون بالحقائق التي انبثقت من وعي المثقف الغربي، ثم انتقلت بالتبني الى فضاء وعي المثقف العربي بالصورة ذاتها وبالماهية ذاتها، وترسخت في وعيه كشعارات ترميزية، تؤكد حضورها في الخطاب، وتنسحب من الواقع بالقدر الذي يلجأ فيه الخطاب الى تضخيم دوره المنوط به، أو اعطاء قوله صفة المنقذ من براثن الجهل والتخلف المستشري حوله، ولم تكن تلك المفاهيم، تشكل منطلقاً للتجاوز والصعود، وانما منحدراً الى الهاوية وارتكازاً في المعوقات, فهي على الرغم من قيمتها الحضارية الراقية، ومدلولاتها التفكيرية الواعية، إلا انها، لم تحقق على صعيد المشهد الثقافي - عندنا - أيّ نجاح يذكر، او موقف يبرهن بصورة او بأخرى على مدى تغلغل تلك القيم بالكيفية التي يتأسس عليها أكثر أنواع الانفتاح والتعالق والحوار تطوراً في الساحة، والسبب - في ظني - يرجع في غالبيته الى اعتبارات ثقافية واجتماعية ذات جذور راسخة في بنية المشهد، لا تستطيع معها حركة التغيّر بوصفها احد مرتكزات الوعي المعرفي الحديث، ان تدفع المثقف - عندنا - الى القيام بإزاحات معرفية وثقافية واجتماعية بما يشبه العبور من ضفة الى اخرى في مجمل حياتنا العامة، بالطبع لا يشكل هذا الكلام حكماً عاماً وقاطعاً، فالقضية لا ترتبط بالبحث عن القيمة الجاهزة ثم تثبيتها، وانما بالبحث عن كيفية تشكل تلك العلاقات التي تحدث بين الثقافة والمجتمع من جهة، وبين المثقف والمجتمع من جهة ثانية، الامر الذي يجعل من الصعوبة بمكان، الركون الى نتيجة او مسلّمة فيما يخص مجمل هذه العلاقات، وإذا كان مثقفنا - غالباً - لا تندرج افكاره وقناعاته وتصوراته ورؤاه ضمن سياق التفكير المؤسساتي بوصفه سياقاً له القدرة الكبيرة على تفعيل اكثر المفاهيم (الحوار، الاختلاف,, الخ) تعقيداً وصعوبة، وله - ايضاً - القدرة على انزالها من سماء الفكرة الى أرض الواقع، بالصورة التي يبدو معها المثقف وكأنه يعزز موقعه داخل المجتمع، طالما كان ارتباطه بمثل هذه المؤسسات قوياً وفاعلاً، وطالما كانت هناك مساحات مفرودة، يتحرك فوقها بحرية الوعي المؤسساتي، وبحرية الممارسة كمتطور وكتجربة اذ تمثل مصداقية المثقف سواء أكان في مقولاته التي يدعيها او في سلوكياته التي يسبغ عليها شيئاً من العقلانية النخبوية، فإن ذلك كان - ولا زال - اشبه بالطريق المفضي الى حافة الهاوية، حيث كان على مثقفينا ان يبحثوا عن تحالفات خارج اطار المؤسسة فيما يشبه الحصانة الدبلوماسية، لاحتراز موقع مهم داخل المجتمع، وسوف يكون ذلك بالطبع على حساب الثقافة والمعرفة، وبالتالي نحن - الآن - إزاء اشكاليات لا تقدم نفسها كما ينبغي ان تكون، او بالهيئة المطلوبة، وانما تعتمد في تجلياتها على مزاجية المثقف وعلى اولوياته التي تستدعي القيم الاجتماعية السائدة بوصفها قيماً استحواذية واندماجية، فبدلاً من تقديم الوعي التحليلي للظواهر الثقافية والاجتماعية والادبية الى واجهة المشهد، يتم تأخيره الى الخلف، ويتصدر - بدلاً منه - الوعي الاندماجي اي الوعي الذي لا يبحث عن جذور وعيه في العمق من التاريخ بحيث تكون صفة المشابهة والتماثل هي الاكثر استحواذاً على اشتغالاته ومقارباته، بمعنى آخر: ان منطقة الفهم وآليات التفكير المنتجة لثقافتنا لم يجر التفكير فيها مطلقاً من قبل مثقفينا الأفاضل، ولم يشفع لهم تعالقهم الثقافي الشمولي مع الآخر، في ادراك معنى وجودهم التاريخي بالكيفية التي يبتعدون فيها عن مؤشرات الضغط النفسي، وعن وهمية الصورة الثنائية بين الأنا والآخر، ولم يشفع لهم ذلك، إلا في استجلاب وسائل معرفية تضفي على مقولاتهم الجدة والحداثة دون ان تحدث فجوة في الاسئلة ذاتها التي تم الاشتغال عليها، وتكرارها من طرف طابور من المثقفين، وإذا كان الكلام هنا يشير الى حالة الثقافة والمثقفين العرب بشكل عام، فإن مثقف الجزيرة العربية له الخصوصية الكبرى حول هذه المسألة، بأي كيفية تكون تلك الخصوصية!,, ولماذا هو بالذات!!؟ هذا ما سوف نجيب عليه فيما يلي:
من الواضح ان العمق التاريخي لتراث الجزيرة العربية، والذي تشكل الدعوة الإسلامية، نقطة تمفصل في سياقه، وفي زمنيته، لم يكن حاضراً بما يكفي في وعي النخبة المثقفة، ولم يشكل مرجعية اسنادية، تعود اليها جميع القضايا الثقافية والاجتماعية والابداعية التي تثار بين المثقفين بين حين وآخر او لنقل: انهم لم يمدوا اعناقهم بما يكفي لقراءة مضامين التراث، والكشف عن مدلولاته العميقة في سياق خصوصيتنا الثقافية والاجتماعية الراهنة، فنحن على قناعة تامة بأن الانساق الثقافية بين عصر وآخر، لا تطالها القطيعة المعرفية (الفوكوية)، وانما الذي يحدث، هو ما يشبه (الانحسار الصفري) بحيث تعود من جديد في شكل انظمة معرفية، تكون وثيقة الصلة بما قبلها ومرتبطة بما بعدها وان بصورة مختلفة ومراوغة في ذات الوقت، وفق تلك الحالة الراهنة، اصبح الشأن الثقافي وقضاياه وكأنه يتمدد افقياً وليس رأسياً، الأمر الذي فقد جزءاً كبيراً من خصوصيته، لكونه الحاضن الحقيقي لهوية المثقف (الاقليمي) والذي يشكل هاجساً، ينمو باطراد عند المثقف العربي وعند مريديه, من هنا تأتي مشروعية السؤال في البحث عن خصوصية تغلف قضايانا الثقافية والاجتماعية العالقة في الساحة، ويأتي ذلك من جهتين:
أولاً: كون مثقفنا الحالي، يرفع شعار الاختلاف في ممارساته الثقافية الواعية كضرورة حضارية ملحة، فإن ذلك يتطلب، على ما يبدو وجود مرجعية ثقافية خصوصية وليست استعارية، حتى تكون لمسألة الاختلاف، دورها الفاعل والمؤثر في الساحة، والا اصبحنا كمن يملؤ كأسه من ماء البحر، ويدعي بعد ذلك الخصوصية والاختلاف، وقد تكون مرجعيات مختلفة ومتنوعة، الا انها في نهاية المطاف، تصب في انموذج تفكيري واحد منزوع من عمق التراث الذي يربط المثقفين في الساحة جميعاً.
ثانياً: كون الاشكاليات الثقافية والادبية المتنوعة التي يثار حولها الجدل والنقاش دائماً، تقدم نفسها، مبتورة العناصر والسياقات، فإن ذلك راجع الى عدم احداث صلة، يقوم بمهامها الوعي النقدي بين ما يحدث هنا وبين ما يحدث هناك، بين ما يحدث الآن وما يحدث بالأمس، كل ذلك ينبغي ان يتم في اطار ابراز خصوصية المشهد في بُعديه: الثقافي والاجتماعي.
|
|
|