Sunday 31th October, 1999 G No. 9894جريدة الجزيرة الأحد 22 ,رجب 1420 العدد 9894


أسئلة الثقافة المهمشة
الشعراء يحطمون الأسوار في أذربيجان ,,بهتيار فاهبازاده مثالاً
فايز محمود أبّا

بإزاء القلعة التي يبلغ عمرها ثمانمائة عام والمطلة على بحر قزوين وفي الميدان الرئيسي لعاصمة اذربيجان باكو تتنصب ستة تماثيل ضخام عاليا كأنما لتسمو عن ضجيج الحياة اليومية, وهذه التماثيل ليست لمغامرين قدامى او جنرالات وقادة عسكريين مظفرين ,, بل وليست للمنقذين الذين خلصوا البلاد من وضر الحقبة الانسانية,.
انها تماثيل شعراء!!
لكأنما ينتصبون منافحين عن تراث ازدهر من أذربيجان عبر قرون ,, فالشعراء يكرمون في سائر انحاء باكو والريف الاذربيجاني يكرم الشعراء بتماثيل ونقوش تذكارية ومتاحف تشيد لهم,, فالدراما وفنون السرد النثرية فنون حديثة بعض الشيء هنا ، لكن الشعر هو الفن الوطني الاعظم,, هو لغة الفلاسفة وعامة الناس كذلك، وقد تميز بحيوية مكنته من البقاء بعد سبعين عاما من الحكم السوفياتي,, وهي حقبة كانت تتسم بحملات التطهير المستمرة اذ كان الشعراء يرسلون ليموتوا في سجن المنافي البعيدة اما الآن فربما كان ذلك الجزء من باكو الذي يسكنه "بهتيار فاهبازاده"في شقته الصغيرة - وان كانت مريحة - اكثر أماكن الاشعاع الادبي أهمية ,, "بهتيار فاهبازاده "أصدر اكثر من اربعين كتابا معظمها دواوين شعر وقد ظهر آخرها قبل أربعة اعوام وقد بدأ في عام 95 وفق رواية ستيفن كاينزر - في طبعة بلغ تعداد نسخها خمسين الفا وهو رقم لا يعرف له مثيل في هذه البلاد الصغيرة الفقيرة ,, مع ذلك أو برغمه فقد نفدت كل النسخ خلال اسبوع واحد!
وذات مساء تحدث فاهبازاده في حوار طويل عن حياته وفنه والاخطار المهلكة التي واجهها وهو يناضل للبقاء في عصور الطغيان ، فماذا قال ؟"لسنوات طويلة ظل يطلب الينا أن نكتب في تمجيد ما يمحقنا ,, وقد ابتلع هذا الطلب المتناقض كثيرين وانا كنت دوما في انتظار مجيء البرابرة هل سيأخذونني الليلة ام غدا لقد ظل السؤال يشغلني بمخاوفه وكوابيسه وباستعادة خيالات التعذيب المرعبة صوره البشعة ,, كل ذلك انتهى الى غير رجعة,,
وهاهم شعراؤنا الشباب يكتبون الآن بشكل جميل جدا
لقد استنقذ تراثنا الشعري "
* هذا ما قاله الشاعر الاذربيجاني الكبير لضيفه ستيفن كاينزر,.
وروى - يستدني من الذاكرة حكاية شاعرين اربدت مصائرهما في تلك العهود السحيقة وما فعلته بهما قوى البطش ,, اما الاول فهو شاعر اذربيجاني ذو قامة ابداعية شاهقة اسمه حسين جافيد رفض ان يخضع للقيم السوفياتية فاعتقلته المخابرات ( الكي جي بي ) سنة 1937م وبعث الى معسكرات الاعمال الشاقة ليلاقي حتفه في سجون المنافي السيبيرية ، الشاعر الثاني هو ساميد فيرجن Samed vurgun وقد كان معلم فاهبازاده الشخصي وراعي موهبته الذي تعهده بالنصح والاخلاص ,, العجيب ان الكاتب لم يستطع ان يحيد عداءه لكيان تلاشى وسقط في فخ مجانية الاراء الجاهزة ونسي ان ذلك كله لم يشفع للشاعر ولم يجنبه المصير المأساوي - لقد قتل الشاعر فكيف لا يستوقف ذلك ناقده؟
* فاهبازاده عرف كيف يتجنب مصير حسين جافيد وساميد فيرجن من خلال توظيف الاليوريا برمزيتها وطبيعتها التخيلية وتركيبتها الاستعارية ,, فمثلا حين اقضت مضجعه المحاولات السوفياتية للقضاء على اللغة الاذربيجانية وثقافتها كتب قصيدته عن لغة قال :
ان أهلها قد ماتوا لكنها بقيت تعاند الفناء
كانت الحيلة التي لجأ اليها هي عنونة القصيدة ب : اللاتينية ,,
ولذلك استطاع ان يقول لمحققي المخابرات - الذين استدعوه بعد ان فهموا ما ترمي اليه القصيدة من احالات - انه لم يكن بصدد كتابة تصريح سياسي ,.
ولكن الشاعر لم يبق دائما في سلام ، بل ان هواجسه الامنية قد افقدته وقراءه كنوزا من القصائد اما كيف فهذه هي الحكاية ,,
في سنة 1952 وبعد ان كتب ما ظنه اشارات واضحة في انتقاد ستالين- لصيغة الكاتب بالمقيت - ظن فاهبازاده ان سيعتقل لا محالة ,, وذات ليلة طاغية في ظلامها سمع صوت محرك سيارة تقف ام داره قبيل الفجر فتأكد ان زوار الفجر قد جاءوا لذا بادر بإحراق عدد كبير من قصائده التي قد تستخدم ضده كأدلة في التحقيق قد تفضي الى ادانته,, وحين اتضح ان القادمين لم يكونوا كذلك كانت القصائد قد فقدت الى الابد!
اشتهرت هذه القصة وقام أحد كتاب الدراما بتحويلها الى مسرحية تلفزيونية بعنوان الرعب / الخوف Fear ويجري الآن تحويلها الى فيلم سينمائي - كان ذلك عام 97 ولابد انه قد صور الآن,, وفي الوقت الحالي صار فاهبازاده شخصية هامة ومحبوبة جدا في بلاده لا كمجرد مبدع فقط بل كعضو مستقل في البرلمان قد نالت البلاد استقلالها سنة 1991 ولانه - مثقف حر ومستقل - فهو يحظى باحترام الجميع وكذلك حب الناس وتقديرهم وهو الاهم ولا يبرز في سماء البلاد تشوهات انصاف موهوبين او عديمي وعي يتجاسرون على محاولة تلطيخ رمز البلاد ، فاهبازاده الان في الرابعة والسبعين - كان في الثانية والسبعين حين اجرى الحوار - ومع ذلك فالرجل في ذروة توهجه وما زال مشغولا بعدد من المشاكل الابداعية فيما يجري التفكير في اقامة نصب له في احدى ساحات مدينته باكو,
وعن المشروع الذي يعمل على انجازه حاليا قال فاهبازاده: "في سنه 1930 كانت تجري تظاهرات ضخمة في باكو ضد الوجود السوفياتي وقد قتل الجنود الذين بعثوا لاخماد الثورة عشرة الآف انسان وانا الان اعمل على انجاز مشروع ( ابداعي ) يتعلق بهذه الثيمة - الموضوعة ،",
فاهبازاده لا يحب المكوث في المدينة طويلا ، فهو ينسحب في كل عام الى قريته الام شيكي Sheki في شمال اذربيجان ليلقي بنفسه في احضان طبيعتها البكر عدة شهور ليستمد منها ومن بسطاء القرية وفقرائها الهاما لقصائده 00 فهو شاعر ينظر الى هؤلاء البسطاء بوصفهم ينابيع الفن ومصادر الالهام,,
فاهبازاده حريص على عزلته تلك التي ينقطع فيها عن العالم اذ ليس في القرية الشمالية اي وسيلة اتصال حديثة بالعالم اصلا لا توجد هواتف هناك,, وعن عاداته الكتابية يقول فاهبازاده انه يكتب عادة في جوف الليل البهيم لانه: "الوقت الذي استطيع فيه أن أحاور نفسي "وهو يعيش الموسيقى الكلاسيكية ويقول انه لا يكاد يتصور الحياة ان لم يسمع السمفونية التاسعة لبيتهوفن كل صباح ومع أن فاهبازاده ابن منطقة من اسيا تربطنا بها وشائح قربى عقدية وحضارية الا انني لم اقرأ في ما يصلنا من مطبوعات عربية ما يشير الى أدنى اهتمام بالحركات الادبية والفكرية هناك- باستثناء وحيد سنعود اليه ، في المقابل اصدرت جامعة انديانا - في الولايات المتحدة - مجلدا فخما - عن مطبوعات قسم الدراسات التركية ! يحوي ترجمات انجليزية لكثير من قصائده ، الكتاب اشتمل ايضا على اربع قصص قصيرة ومسرحية واحدة .
يبقى ان اقول انني حظيت ذات ضحى عال بكتاب اصدرته المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة من تأليف الدكتور رفيق عليوف ومع نص الكتاب الموجز ترجمة انجليزية انجزها الدكتور لاهسن حداد Lahcen Haddad فيما تولى مصطفى القصري عبء الترجمة الفرنسية والكتاب يبحث في الخصائص الرئيسية والتطور الثقافي في اذربيجان قديما وحديثا وعنوانه الاسلام والثقافة الاذربيجانية ، ومن الواضح ان مؤلفه على اطلاع عميق بالتراث العربي القديم - وهذا ليس غربيا باعتبار العامل التاريخي - المدهش ان صلته بالفكر العربي الحديث - كما تدل قائمة المراجع التي تحوي كتاب حسين مروة عن النزعات المادية وكتاب د,زكي نجيب محمود تجديد الفكر العربي عليوف ينبهنا - وربما يفسر لنا حتى صدور كتاب فاهبازاده عن قسم الدراسات التركية في امريكا - الى سياسات تتريك بدأت منذ بداية التسعينات ، يقول عليوف ص 54 "وقد ظهرت منذ بداية التسعينات بذور حركة اخرى وهي الحركة التي ترمي الى تتريك الثقافة الاذربيجانية ، على نموذج حركة القوميين الاتراك الشباب في تركيا في اواخر القرن التاسع عشر ,,الخ"انه كتاب هام جدا يتحدث عن هذه الفترة - استقلال ما يسمى بالجمهوريات الاسيوية الاسلامية الطريف انني توصلت اليه بمحض المصادفة حين اختارني رئيس تحرير جريدة عرب نيوز السابق الدكتور عبدالقادر طاش - وهو مفكر جليل وانسان على قدر عال من الشفافية تشغله هموم العالم الاسلامي بل وقضايا المسلمين في العالم كله ,.
وقتئذ لم يكن د,عبد القادر قد غادر الى قناة اقرأ التي يرأسها الان والتي كانت اصلا نتاج اطروحاته ,,
وقد شرفني حين اختارني - كما فعل في عدد من المناسبات - لكتابة مراجعة عن الكتاب للصحيفة ثم اغضى عن استعادته مثلما اغضى عن كتب دفع ثمنها من جيبه وهو فضل لا يليق بمثلي ان يتجاهله عرفانا لايام مضيئة افدنا فيها من علمه وخلقه ,, الشاهد هنا عن علاقة منابرنا الثقافية بهذة الاجهزة ، هل حاول المحررون او المنظمات التي تصدر مطبوعات جادة ان تمد جسورها الى الاعلام وتبعث بنسخ للاقسام الثقافية ام انها ما زالت تكتفي بالتواصل مع رؤساء تحرير لا يجدون الوقت - ان رغبوا - لقراءة ما يصلهم ، ونحن لا نتحدث عن قيادات اشباه الاميين المتوافرين في بعض صحفنا للأسف ، نحن هنا ننظر الى الجانب المضيء ونعرف ان مشاغل الرؤساء لا تتيح لهم ما يريدون من وقت للقراءة ولعل القضية اهم من ان تترك للصدف فهل من آلية ما لمثل هذا التواصل؟
قطعا نحن نثمن ما قام به البنك الاسلامي للتنمية من محاولات ولكننا نعتقد ان امامنا مساحات من العمل الاقتصادي والثقافي في بلدان تربطنا بها كثير من الوشائج فهل نرى ما يشير الى شيء من هذا ,, هي صرخة اما للريح ,, واما للمطر مع الاعتذار لمحمد جبر الحربي .
الاسكان العاجل / الشرفية / جدة 15 رجب 1420ه الموافق 25 اكتوبر 1999م,
الحوار المترجم في ثنايا المقال نشرته صحيفة الانترناشونال هيرالد تزجون في عددها الصادر في 12 اكتوبر 1997م ص 22 بتوقيع ستيفن كاينزر.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
المجتمـــــــــــــع
الفنيـــــــــــــــــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
لقاء
تقارير
عزيزتـي الجزيرة
ساحة الرأي
الريـــــــاضيــــة
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved