Sunday 31th October, 1999 G No. 9894جريدة الجزيرة الأحد 22 ,رجب 1420 العدد 9894


شموس ثلجية
ريمة الخميس

- نبدو أحياناً متواطئين مع انفسنا في تهميش القيمة عن عمد، او تغييب الوعي بوعي، او التزام الصمت عن حق، او اختيار مواقف السلب وايثار السلامة، الى آخر مايأتي به هذا الاستطراد، بل ان هذه المواقف الابرامية تمتد في كثير من الاحيان الى تعزيز الخيارات في انتقاء اشكال ثقافتنا ومستوياتها، بانحياز الى كل ما يمنح الراحة العابرة ولا يفلق الدماغ بدعوته للتأمل والانتباه واعمال الذهن حتى يتداعى البدن,, وتزداد هذه الكارثة وطأة حين تمتد من المستهلك للثقافة الى المسؤول عن ترويجها!.
2- الاسطورة عالم سحري تفوّق بإبهاره على كل الممالك التي ابتدعها خيال محرر جموح، ربما لانها استقطبت من الخيال قدرة التحليق واحتفظت من العقل بحبكة المنطق، فأصبحت مفعمة بقدرة هائلة على التخاطب، توجه عبرها الحكمة ودعوة النصح والرشاد، وتثري جسد المعنى بالمعنى,, من هذا نصطدم باول الاسباب وأهمها في استلهام الاعمال الابداعية في الفن والأدب للتراث القديم، خاصة للاسطورة، على مر العصور,, انها دائماً محاولة للبحث عن المعنى في جوف المعنى، واثراء للحظة الحاضرة بخبرة فريدة اخترمت كل العصور الينا في لحمة الاسطورة وبهائها,, كذا في ازمنة القهر - مثالا- رأينا تراث الاساطير يستنهض الى الوجود من جديد في اعمال ابداعية تقول مالا يجرؤ اصحابها على الافضاء به جهراً او لمزا وهمسا، والذين يقرأون نماذج من معطيات الأدب الفرنسي - مثلا - في القرنين، السادس عشر والسابع عشر، في الشعر او المسرحية خاصة، ويدركون انهم امام ترجمات لنماذج يونانية، سرعان ما يكتشفون بعد دراسة ظرفها التاريخي والاجتماعي، انها قد كانت تخاطب بشجاعة تلك الظروف القاهرة التي صادرت في الحروف حرية الكلام, هل تنتهي القضية هنا؟ هل يكون الفن او الأدب قد أدى دوره وأتمه حين وجد في الاسطورة ملاذه واداته الى التعبير؟
3- الدعوة الى الأصالة او الى المعاصرة او الى الموازنة بين الاصالة والمعاصرة دعوة تبدو قديمة وبالية وممجوجة احياناً، وتبدو وجيهة ومخلصة في وقت آخر وظرف مغاير، ربما من وجاهتها هذه الايام انها تصاحب قضية العولمة، دعوة قديمة وبالية لكنها لن تنتهي ابد الدهر، ليس هذا تشاؤما او ادراكا لبعض حقيقتنا في اننا قوم نحب الكلام، وانما لان الدعوة حقيقة تنطوي بشكل او بآخر على رغبة حقيقية في كل الحالات لإثراء التجربة الخاصة بخبرة التجربة الانسانية العامة والاستفادة من معطياتها، وهي رغبة تعانق في جوهرها بعض هموم الفن والأدب، وبعض هواجس الفنان او الأديب.
في دعوة الاصالة قد نستهلم اعمالا من تراثنا العربي القديم ونفيد منها مدا للمعنى في جسده الغض، وفي دعوة المعاصرة وصل لغضاضة التجربة بدربة الخبرة وطول الممارسة، فاذا اثمرت الدعوة في اثراء المعطى الثقافي عبر انضاج تجربة الابداع، هل يكون هذا كل شيء؟ اعني هل يقتصر هم الابداع على تجويد اشكاله ونماذجه، ام تمتد الغاية الى هدف آخر؟
4- سيزيف، المعذب بحمل الصخرة واعتلاء جبل النار,, هذا مابقي لنا منه عبر آلاف السنين - او برومثيوس، مشدودا الى الصخرة، ومسلوب القدرة على الفرار او النجاة، شق صدره، وسلطت عليه جوارح الطير تنهش كبده، حتى اذا ما اهترأ الكبد استُبدل به كبد جديد, عذاب ليس من قدرة البشر على الاحتمال، بل ليس من قدرة خيالهم على التصور، ولهذا انكبت الاعمال الابداعية في الفن والأدب تنهش من كبد هذا العذاب ماشاءت، وبلغتنا سيرة برومثيوس من مصادرها القديمة ومن الاعمال التي استلهمتها باغداق في تصوير الالم واستغراق في التأسي ومط الشفاه,.
هل هذا كل شيء في سيرة البطل؟ ام ان تواطؤاتنا مع الذات في تغليب السهل والبسيط في ثقافتنا هي التي قدمته لنا بهذه البساطة العابرة؟
5- الانسان في علاقته بمعظم الكائنات الحية مثلها يأكل وينام، ويرى ويسمع، ويدرك ويفكر، بل هناك من المخلوقات ما يمتاز به عليه بحدة السمع او البصر، وما يقاربه في الذكاء والدهاء، وانما يبقى الانسان وحده تماما هو الكائن المفرد بلا منازع او مقارب الذي يستخدم النار,.
وبغض النظر عن القيمة المادية للنار كوسيلة للانضاج اوالدفء او الصناعة او غيرها، ومهما نافستها معطيات ابحاث الطاقة بكل اشكالها، فان القيمة التي لا يدركها مدى هي في انها الامتياز المطلق للانسان, هذا هو حجم الجرم النبيل الذي عوقب بسببه برمثيوس حين سرق النار من قصرها على الرموز الكبرى في سمائها، ومنحها للناس، فما اهون عذابه اذا ماقيس بنبل الفعل، وما اروع موقفه حين كان بوسعه ان ينال حظوة الرموز لو تراجع لكنه ازداد امعانا في العناد وصلابة في التحدي، لادراكه ان قيمة الفعل والمنجز اعظم من قيمة الانعتاق من العذاب والنجاة,,، هذا المعنى لا تدركه ثقافتنا في اسطورة قديمة مثل برومثيوس!
6- عذاب برومثيوس في الاسطورة وهج جميل اغرى بالاحتذاء والاستلهام، لكنه مثل شمس جليدية خبئت حرارتها في إدراك نبل الفعل الذي منح النار للناس,, ومثله الوقوف بالغاية عند التلذذ بعذاب المعاناة في تجارب الابداع، مهما زاد من ثرائها الانكباب على الاحتذاء والاستلهام، او احكمت توجهاتها دعوى الاصالة والمعاصرة حتى انضجت فيها الوعي،واججت الحس بجماليات الفن,, تبقى كعذاب برومثيوس الجميل شمسا جليدية حتى تكتشف النبل في ضمير الفعل الحياتي والاجتماعي الذي تأسست عليه، وحتى تنشر دفأه في وجدان حياة تنتظر مولدها الجديد، تعطي في ظلها للانسان امتيازاً آخر بحجم ما اعطاه برومثيوس,,!
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
المجتمـــــــــــــع
الفنيـــــــــــــــــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
لقاء
تقارير
عزيزتـي الجزيرة
ساحة الرأي
الريـــــــاضيــــة
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved