Sunday 31th October, 1999 G No. 9894جريدة الجزيرة الأحد 22 ,رجب 1420 العدد 9894


الثمرات المرة لتغريب الفكر الإسلامي
د.محمد عمارة

* ولقد كانت الثمرة المرة لهذا المخطط، مذاهب للفكر الغربي، تترست جميعها - من الشمولية إلى الليبرالية - لصرف الأمة عن مرجعية الإسلام في مشروع نهضتها المنشودة,, مع تنوع في سبل ودرجات القسر على قبول المرجعية الغربية بدلا من مرجعية الإسلام,, فمن حداثة تقيم قطيعة صريحة مع الإسلام وتاريخه وتراثه,, إلى مركسة للإسلام، تجعله مجرد بناء فوقي لقوى الانتاج,, وعلاقات الانتاج ,, إلى وضعية تفرغ الاسلام من محتواه كدين,, إلى علمانية معتزلة عن كل ميادين الاجتماع الإنساني والعمران البشري,, والمحصلة النهائية لجميعها هي إلغاء التعددية في المرجعية الحضارية، حتى لا تتميز حضارتنا بمرجعيتها الإسلامية المتميزة!,.
* فمن سلامة موسى (1305 - 1377ه 1888 - 1958م) - الذي عبر بصراحة,, عارية عن مشروع المعلم يعقوب,, والذي التقط الخيط من المثقفين الموارنة - فدعا إلى الانسلاخ من الشرق والعروبة والإسلام، وإلى استبدال التفرنج في كل شيء بهذه الروابط,, فقال: إنه إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة، فإن الرابطة الدينية وقاحة، والرابطة الحقيقية هي رابطتنا بأوروبا,, فهي الرابطة الطبيعية لنا,, وكلما زادت معرفتي بالشرق، زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا، زاد حبي لها، وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها,, فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب, وهذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرا وجهرا ؟!,, (1)
* إلى الدكتور طه حسين (1306-1393ه 1998 - 1973م) - الذي سار على درب سلامة موسى - في هذه القضية بالذات - فادعى أن عقلنا الشرقي، كان ولا يزال، يوناني الطابع والمكونات، وأن الإسلام لم يغير من يونانيته، كما لم تغير المسيحية من يونانية العقل الأوروبي، لأن الإسلام والقرآن ليس فيهما أكثر مما في المسيحية والإنجيل,, إن كل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوروبي يمتاز عن هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب.
وإنما هو عقل واحد,, مرده إلى عناصر ثلاثة:
1- حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن.
2- وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه.
3- والمسيحية وما فيها من دعوة إلى الخير وحث على الإحسان.
ولو أردنا أن نحلل العقل الإسلامي لما رأيناه ينحل إلى شيء آخر غير هذه العناصر الثلاثة,.
وإذا صح أن المسيحية لم تخرج العقل الأوروبي عن يونانيته، فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته، والتي كانت متأثرة بالبحر الأبيض المتوسط,, فبين الإسلام والمسيحية تشابه في التاريخ,, وجوهر الإسلام ومصدره هما جوهر المسيحية ومصدرها,, والقرآن إنما جاء متمما ومصدقا لما في الإنجيل,, ؟! (2) .
وبناء على هذا الحكم - الذي تجاهل تميز الإسلام بشريعة لم تعرفها المسيحية - التي تركت ما لقيصر لقيصر,, ووقفت عند مملكة السماء وخلاص الروح -,, وتجاهل التبدل الأوروبي الذي أحدثته الكنيسة في المسيحية الأولى,, كما تجاهل النزاع في يونانية العقل الشرقي القديم - بعد أن تجاهل الدكتور طه حسين كل ذلك، خلص إلى النتيجة التي سعى إليها كل فرقاء هذا التيار، وهي اعتماد النموذج الغربي في النهضة والحكم والإدارة والتشريع بدلا من نموذج الإسلام، وذلك بدعوى وحدة النموذج لا التعددية فيه,, ,, فالسبيل - ]عنده[ - واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي: أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب,,! (3) .
وكأنما واحدية النموذج الحضاري، وآحادية المرجعية الحضارية، ومكونات العقل الحضاري، هي القدر الذي لابد وأن نؤمن به ونسلم له، خيرا كان أو شرا، حلوا كان أو مرا، محبوبا كان أو مكروها، محمودا كان أم غير محمود!,.
* إلى مذاهب الذين بلغوا على طريق الإلحاق الحضاري حد مركسة الإسلام ,, فلم يروا فيه إلا مجرد ثورة والقرآن هو كتاب هذه الثورة,, ومصدر المعرفة بنظرية الثورة وانجاز الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن إلا إعادة بناء الشخصية العربية، وإعادة تخطيط المجتمع العربي والإيمان بالإسلام لم يكن إلا الانضمام إلى الثورة والصحابة كانوا رفاق الثورة الذين تخلوا عن طبقاتهم وضحوا في سبيل الثورة,, أما الفقهاء فكانوا العلماء بنظرية الثورة,, كما كان القراء طليعة فكرية للثورة، يمثلون فئة المثقفين الثوريين, الخبراء بنظرية الثورة,, والأوساط اليسارية,, الممثلين لليسار الثوري ؟؟!,, (4),
إلى آخر هذه الفجاجة,, الطفولية في التفسير المادي للإسلام!,.
* إلى الوضعية - المادية التي أرادت التسلل إلى الغاء الإسلام، بتفريغه من مضمونه الديني، ولكن بلغة تراثية، وتحت مظلة الإسلام,, فدعت - باسم التراث والتجديد إلى التحرر من سلطة الماضي، وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل وإلى الانتقال من الله إلى الإنسان الكامل ,, فكل صفات الله هي صفات الانسان الكامل,, واسماؤه الحسنى هي آمال الانسان,, فالانسان الكامل اكثر تعبيرا من لفظ (الله),, والى (الانتقال من العقل الى الطبيعة، ومن الروح الى المادة، ومن الله الى العالم، ومن النفس الى البدن، ومن وحدة العقيدة الى وحدة السلوك),, والى (تحويل الوحي الى ايديولوجية),, فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور,, والالحاد هو التجديد,, هو التحول من القول الى العمل، ومن النظر الى السلوك، ومن الفكر الى الواقع,, إنه وعي بالحاضر، ودرء للاخطار,, بل هو المعنى الاصلي للايمان,, (5) ؟؟!!,.
الى آخر ما في هذه الثمرات المرة من (عجائب الافكار) التي نافست في (العجب) (عجائب المخلوقات)، مع الفارق بين عجائب العظمة وعجائب الانحطاط؟!,.
***
واذا كان البعض يتوهم ان هذه الثمرات المرة لفكر مذاهب التغريب، انما هي اختيارات هؤلاء الى هذا الطريق,, طريق صب إسلامنا في قوالب مذاهب الغرب، ورفض تميزه، لرفض التعددية في المرجعيات الحضارية وفي سبل الامم في النهوض والتقدم,, فإن (فلتات اقلام) من هؤلاء الذين دعوا الى ان نسير سيرة الغرب في كل شيء قد فضحت (اختياراتهم) هذه، عندما اعترفوا بانها (جبر) غربي، الزمهم به الغرب، حتى بالمعاهدات والمواثيق,, ففي هذه (التبعية) ما يتجاوز (الترغيب,, والترهيب) ليصل الى (الجبر,, والقسر,, والقهر,, والاكراه) على ان نسير في هذا الطريق الذي بشر به (المعلم) يعقوب حنا منذ قرنين من الزمان,, وهاهو الدكتور طه حسين - الذي كتب كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عقب توقيع مصر لمعاهدتي 1936م و1938م - يقول في هذا الكتاب: لقد (التزمنا امام اوروبا ان نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الادارة، ونسلك طريقها في التشريع,, التزمنا هذا كله امام اوروبا,, وهل كان امضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة الغاء الامتيازات الا التزاما صريحا قاطعا امام العالم المتحضر باننا سنسير سيرة الاوروبيين في الحكم والادارة والتشريع؟ فلو اننا هممنا الآن ان نعود ادراجنا وان نحيي النظم العتيقة لما وجدنا الى ذلك سبيلا، ولوجدنا امامنا عقابا لا تُجاز ولا تُذلل، عقابا نقيمها نحن لاننا حراص على التقدم والرقي، وعقابا تقيمها اوروبا لاننا عاهدناها على ان نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة) (6) ؟؟!
وامام هذا الاعتراف من الدكتور طه حسين (بالالتزام الصريح القاطع امام اوروبا ان نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الادارة، ونسلك طريقها في التشريع),, هل يبقى مكان للريبة والشك ان القوم انما يسيرون على طريق (المعلم) يعقوب حنا، الذي اعلن (الوفد) الذي صحبه الى مرسيليا، في معية جيوش الحملة الفرنسية المنسحبة,, اعلن في مذكراته الى بونابرت ذات (الالتزام) عندما قالوا: (ان الوفد المصري، الذي فوضه المصريون الباقون على ولائهم لك، سيشرِّع لمصر ما ترضاه لها من نظم عندما يعود اليها من فرنسا)؟!,.
فنحن امام ثمرات مرة، هي حلقات من (الالزام,, والالتزام) بالسير سيرة اوروبا (في الحكم,, والادارة,, والتشريع),, الغاء للتعددية، وقسرا لحضارتنا الإسلامية وامتها على ان تستبدل النموذج الغربي بالنموذج الإسلامي تأييدا وتأبيدا في السياسة والامن والاقتصاد!,.
هكذا صنعت الغزوة الاستعمارية الغربية، وما تزال تصنع، مع التعددية ، التي جعلها الله، سبحانه وتعالى، سنة من سننه وآية من آياته، التي لا تبديل لها ولا تحويل,.
وهكذا مثلت هذه الغزوة جناية على الأقليات، التي نعمت بالتعددية في تاريخها الحضاري,, فها هي الجراح التي لا سبيل إلى اندمالها مع اليهود، الذين لم ينعموا بالأمن والعهد إلا في دار الإسلام، حتى لقد غدت فلسفتهم جزءا من الفلسفة الإسلامية، وتأثرت أجرومية عبريتهم بالأجرومية العربية، وحاكي عروض شعرهم عروض الشعر العربي,, وعاملهم الآخرون كما عاملوا المسلمين,, حتى جاءت الغزوة الغربية فجعلت من نعمة التعددية، التي نعموا بها، ثغرة للاختراق، وسبيلا للإلحاق وبابا للجراح المستعصية على الاندمال!,.
وها هي الأقليات النصرانية، التي تدين ببقاء عقائدها ولاهوتها وكنائسها، للتعددية الإسلامية، يكاد الاختراق الغربي أن يحولها إلى فيتو ضد حاكمية الشريعة، التي ضمنت لها نعمة التعددية على مر تاريخنا الحضاري الطويل؟!,.
ومع ذلك,, فإن سبيل الكشف عن حقائق الإسلام في هذا الميدان - وغيره من الميادين - وإدارة الحوار الموضوعي والجاد والصبور مع مختلف الفرقاء,, هو السبيل لاستعادة وحدة العقل العربي والمسلم حول ثوابت المشروع الحضاري الإسلامي,, وسد ثغرات الاختراق أمام الغرب والتغريب.
الهوامش:
(1) ]اليوم والغد[ ص 187، 189، 7,5 طبعة القاهرة سنة 1928م.
(2) ]مستقبل الثقافة في مصر[ ج1 ص 28، 29، 22 ، 23 طبعة القاهرة سنة 1938م.
(3) المرجع السابق: ج 1 ص 45.
(4) د, عبدالله خورشيد البحري ]القرآن وعلومه في مصر[ ص 108 - 138 - 136, طبعة القاهرة سنة 1970م.
(5) د, حسن حنفي ]التراث والتجديد[ ص 55، 141، 146، 153، 154، 61، 203، 69، 67 طبعة القاهرة سنة 1980م.
(6) ]مستقبل الثقافة في مصر[ ج 1 ص 36، 37.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
المجتمـــــــــــــع
الفنيـــــــــــــــــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
لقاء
تقارير
عزيزتـي الجزيرة
ساحة الرأي
الريـــــــاضيــــة
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved