من القضايا التي تشغل صانعي القرار في الدول النامية في الفترة الحالية كيفية التعامل مع النظام الاقتصادي الجديد الذي قلص من قدرة الحكومة على التأثير على كثير من المتغيرات وساهم في جعله اكثر عرضة للتأثر بالمتغيرات الخارجية كما اسهم في إعطاء القطاع الخاص قدرا كبيرا من الحرية الاقتصادية امكنه من اتخاذ القرارات المختلفة بعيدا عن الضغوط والقيود الحكومية وبالاضافة الى ما يوفره الانفتاح الكبير والواسع على العالم الذي يتيحه النظام الجديد فهو آلية مناسبة جدا تنتقل عبرها المشاكل الاقتصادية من دولة الى أخرى بدون عوائق, ولعل الدول النامية هي المتضرر الرئيس من وجود هذه الآلية خاصة وان درجة تأثرها بما يحدث في الخارج اكبر بكثير من درجة تأثيرها.
وعلى الرغم من السلبيات المتوقعة والمتخيلة للنظام الاقتصادي الجديد الا انه يحمل الكثير من الايجابيات لاقتصادات الدول النامية, ففي ظله ستكون الدول النامية اكثر قدرة على النفاذ للاسواق العالمية وتسويق منتجاتها بسهولة في اسواق كانت شبه مغلقة امامها او مغلقة بالعديد من القيود على اختلاف انواعها, ويتوقع ان يسهم هذا النظام في زيادة مقدرة الدول النامية على استغلال مواردها الاقتصادية المتاحة الاستغلال الامثل وعلى زيادة معدلات الانتاجية وتحسين الدخول وينظر البعض الى هذا النظام على انه اداة عالية الكفاءة لنقل التقنية من الدول المتقدمة الى النامية عن طريق الاستثمارات الاجنبية والاستثمارات المصاحبة لاستخدام العلامات التجارية لما يوفره هذا النظام من حرية وحماية واطر قانونية خاصة بحركة رؤوس الاموال.
وهناك العديد من الاسباب الاخرى التي تجعل الدول النامية اكثر تفاؤلا بهذا النظام بل ان هناك من يبالغ في التفاؤل ويرى ان الدول النامية وبخاصة الدول الغنية منها مقبلة على طفرة اقتصادية ابرز دعائمها هذا النظام.
واذا كانت العزلة عن هذا النظام غير ممكنة والتفاؤل المفرط غير مناسب، فالمفترض ان تسعى الدول الى تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر المتوقعة من الوضع الجديد ويعتمد هذا على مدى قدرة الدول والمجتمعات على التعامل مع النظام الجديد وعلى قدرتها على صياغة استراتيجياتها وسياساتها الاقتصادية بالقدر الذي يأخذ المتغيرات الجديدة في الاعتبار ويحمي حقوق ومصالح الدولة والمجتمع, فلا الانفتاح غير المدروس وجعل الاقتصاد المحلي شديد التأثر والحساسية بالمتغيرات الخارجية امر مناسب ولا الانغلاق والتصرف بمعزل عما يدور في الخارج يحقق ما تسعى اليه الدول من استقلالية لان امكانية بقاء المجتمع بعيدا عن التأثر والتأثير بما وفيما يدور حوله اصبحت غير سارية المفعول الآن.
واذا كان التواؤم مع النظام الاقتصادي الجديد مطلبا ضروريا فانه ينبغي ألا نغفل عن الآثار التي تتركها عملية المواءمة هذه على الكثير من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المحلية الاساسية، فاعادة هيكلة الاقتصاد المحلي ليتكيف مع الوضع الجديد ستعمل على سبيل المثال على ايجاد فئات مستفيدة وفئات متضررة من هذا التغير, ومقتضيات العدالة تستلزم توزيع المكاسب الناشئة توزيعا عادلا والا فالنتيجة لن تكون في صالح المجتمع واستقراره كما ان الانفتاح السريع وغير المدروس بدعوى مواكبة التطورات على الساحة الدولية يمكن ان يجعل الاقتصاد المحلي مكشوفا بدرجة اكبر من اللازم في مواجهة المتغيرات الخارجية، والمنطق يحتم ألا يسلم المجتمع زمام اموره للاخرين, وفي جميع الحالات فان الامر يحتاج الى الموازنة وضبط للامور بمعايير منطقية تجمع بين المحافظة على الهوية والمصالح الوطنية والابحار مع القافلة بهدوء بعيدا عن الامواج العاتية.
* قسم الاقتصاد الاسلامي - جامعة الامام محمد بن سعود