Monday 25th October, 1999 G No. 9888جريدة الجزيرة الأثنين 16 ,رجب 1420 العدد 9888


المشروع الغربي,, والتعددية في الحضارات (1 -2)

اذا كان (جامع الايمان) و(موحّد المؤمنين) هو (التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم) فإن مظلة هذا (الجامع) وإطار هذا (التصديق) قد اتسع لتعددية أثمرها (التأويل) فيما يجب او يجوز فيه (التأويل) فإذا ما التزم الفرقاء المتأولون بقواعد التأويل التي قررتها العربية,, والتي لا تخرجه عن ثوابت (التصديق الجامع) انفسحت أمامهم آفاق التعددية في هذا الإطار، الذي يعطي (مذاهب الفكر) طابعها (الإسلامي)، مع ما بينها من فروق وتعددية في التصورات.
وإذا كان تعريف ابن رشد (520 - 595ه 1126 - 1198م) للتأويل يقول (إنه إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية، من غير ان يخل بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، او مقارنه او غير ذلك من الاشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي,,) (1) فإن الامام الغزالي يفصل (لمراتب الوجود) التي تتصورها التأويلات المتعددة (لما اخبر به الصادق) تفصيلا يجعل للتعددية، النابعة من التأويل، خمسة مذاهب مفتوحة سبلها امام تصورات العقل المسلم للموجودات التي تحدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي للتأويل مدخل في تصورها,, فالايمان قائم عند فرقاء هذه التأويلات والتصورات، لقيام التصديق، وانتفاء (التكذيب) لصاحب الرسالة، عليه الصلاة والسلام,, لأن الكفر: هو تكذيب الرسول في شيء مما جاء به, والإيمان: تصديقه في جميع ما جاء به,, وحقيقة التصديق: الاعتراف بوجود ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجوده، الا ان للوجود خمس مراتب:
الوجود الذاتي: وهو الوجود الحقيقي، الثابت خارج الحس والعقل، ولكن يأخذ الحس والعقل عنه صورة، فيسمى أخذه إدراكا.
والوجود الحسي: الذي يتمثل في القوة الباصرة من العين، مما لا وجود له خارج العين فيكون موجودا في الحس، ويختص به الحاس، ولا يشاركه غيره، وذلك كما يشاهد النائم، بل كما يشاهد المريض المتيقظ.
والوجود الخيالي: الذي يخترعه الخيال لصور المحسوسات اذا غابت عن الحس، فهو موجود في الدماغ لا في الخارج.
والوجود العقلي: فيما له روح وحقيقة ومعنى كاليد، مثلا، فإن لها صورة محسوسة ومتخيلة، ولها معنى هو حقيقتها، وهي القدرة على البطش - التي هي (اليد العقلية).
والوجود الشبهي: وهو ان لا يكون نفس الشيء موجود الا بصورته ولا بحقيقته لا في الخارج ولا في الحس ولا في الخيال ولا في العقل، ولكن يكون الموجود شيئا آخر يشبهه في خاصة من خواصه وصفة من صفاته.
وكل من نزّل قولا من اقوال صاحب الشرعة، صلى الله عليه وسلم على درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين، وإنما التكذيب: ان ينفي جميع هذه المعاني، ويزعم ان ما قاله لا معنى له، وإنما هو كذب محض، وغرضه فيما قاله التلبيس او مصلحة الدنيا، وذلك هو الكفر والزندقة ولا يلزم كفر المتأولين ماداموا يلازمون قانون التأويل,, وكيف يلزم الكفر بالتأويل، وما من فريق من أهل الاسلام (الا وهو مضطر اليه؟!) (2) .
هكذا انفتحت سبل التعددية واتسعت آفاقها أمام (تيارات الفكر) الاسلامي في اطار (وحدة وجامع التصديق) بما جاء به الصادق، عليه الصلاة والسلام!.
وهكذا ظلل (الجامع الاسلامي) الذي وحد الامة والعقيدة والحضارة ودار الاسلام,, ظلل تعددية في اللغات والاقوام,, وفي الثقافات الفرعية,, وفي الاوطان والاقاليم المتميزة,, وفي الفرق السياسية,, وفي المذاهب الفقهية,, وفي التيارات الفكرية والمدارس الفلسفية,, وايضا في الشرائع والحضارات، فازدهرت تعددية الاجتهادات البشرية في اطار الجامع الثابت الذي تمثل في اصول الايمان بالله الواحد,, واليوم الآخر,, وخبر الصادق، عليه الصلاة والسلام.
* * *
بل ان (السبيل الاسلامية) التي حددها الاسلام، وتميزت بها شريعته، في حل التناقضات بين فرقاء التعددية، جاءت طبيعتها وآلياتها ومقاصدها لتكرس قيام هذه (التعددية) عند المستوى الوسطى، الذي لا يذهب بها الى (الغاء الآخر) و(نفيه),, ولا الى التشرذم (والقطيعة) التي لا رابط ولا جامع يوحد بين فرقائها,, فلقد رفض الاسلام مذهب (الصراع) سبيلا لحل التناقضات بين فرقاء التعددية، لان الصراع غاياته (صرع,, وإفناء,, ونفي) الآخر، ومن ثم فهو يلغي التعددية وينفيها,, هكذا جاء معناه في الموطن الذي ورد مصطلحه بالقرآن الكريم (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية, وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية, سخرها عليهم سبع ليال وثمانية ايام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم اعجاز نخل خاوية, فهل ترى لهم من باقية) (3) ؟!.
فالصراع غايته إهلاك الآخرين، حتى لا (ترى لهم من باقية)!,, فسلوك سبيله في حل التناقضات بين الفرقاء ينفي فلسفة التعددية ويلغي وجودها.
وبدلا من (الصراع) سبيلا لحل التناقضات بين فرقاء التعددية، زكى الاسلام (سبيل التدافع) الذي لا يتغيا (نفي الآخر) وإنما (تعديل موقعه) من (المعايير الاسلامية الجامعة والضابطة والحاكمة),, فهو (حراك) لا (إهلاك)، و(تعديل) في المواقع والمواقف لا (نفي وإلغاء) للآخرين,, وعندما يخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول له: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم, وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم) (4) ,, فإنه يعلمنا معالم هذا السبيل,, فالتدافع لا يتغيا (صرع الآخر وإلغاءه)، وإنما تحويل موقفه وموقعه عن (العداوة)، التي تجعله من اهل (السيئات) الى موقع وموقف (الولي الحميم) الذي يجعله من أهل (الحسنات)!,, فيتم (الحراك) بواسطة (التدافع) مع بقاء تعددية الفرقاء المتمايزين)!!
بل لقد حدثنا القرآن الكريم عن هذه (السبيل الاسلامية) سبيل (التدافع) لا (الصراع) باعتبارها الحافز الذي يدفع الحياة والعمران الى الامام دائما وابدا,, وهذا يعني اقتران التقدم بالتعددية، إذ بدونها لا تدافع، لانه مستحيل بدون وجود الفرقاء المتدافعين ابدا؟! (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) (5) ,, وعندما أذن الله، سبحانه وتعالى، لرسوله والمؤمنين بالقتال، جاء الحديث عن (التدافع) لتكون غايات القتال تعديل مواقف المشركين من مواقع الشرك الى الايمان، فهي (حراك) لا (نفى وإهلاك),, (إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور، أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير, الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور) (6) .
فهي، إذن، سبيل إسلامية واضحة: (التعددية) في إطار (الجامع),, و(التنوع) في إطار (الوحدة),, وبغيبة طرف منهما يغيب المعنى وتغيب الحكمة عن الطرف الآخر!
- فالشرائع المتعددة لا تتأتى تعدديتها الا في إطار (الدين) الواحد، وبالنسبة اليه وبالمقارنة معه,.
- و(الحضارات) المتعددة، لا تتأتى تعدديتها الا في إطار (المشترك الانساني العام) المتميز عن الخصوصيات الحضارية.
- والتعددية داخل أية حضارة من الحضارات، لا تتأتى الا مع وجود المرجعية الواحدة، والجامع الواحد، في هذه الحضارة,, فلو انتفت المرجعية الواحدة - والموحدة للحضارة - انتفى معنى (التعدد) في هذه لحضارة ايضا!,, فلا تعددية بدون (استقلال,, وتميز) لحضارات هذا العالم الذي نعيش فيه,؟!
الهوامش:
(1) (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) ص 32 دراسة وتحقيق: د, محمد عمارة طبعة القاهرة 1983م.
(2)(فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة) ص 4 - 9.
(3) الحاقة: 5 - 8.
(4) فصلت: 34، 35.
(5) البقرة: 251.
(6) الحج: 38، 41.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الاقتصـــادية
منوعــات
ملحق ينبع
عزيزتي
الرياضية
الطبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved