Sunday 24th October, 1999 G No. 9887جريدة الجزيرة الأحد 15 ,رجب 1420 العدد 9887


قصة قصيرة
أمانة
عبد الله محمد حسين

غمرني بنظرة فاضت قلقة من عينيه الواسعتين المحتشدتين بوجل أخذ يشتد عندما شرع يفتح حقيبة سوداء وهو يحتضنها بمفتاح صغير كان يخبئه في محفظة رمادية مهترية، دسها- بعد أن استل محاذراً منها المفتاح- في قاع جيبه الجانبي، ثم أناخ عليها فخذه الغليظة, أولج يديه الضخمتين من فرجة صغيرة تضيق بهما، اطمأن باللمس والطبطبة على محتوياتها، ثم أغلقها بالمفتاح، تابعت بسأم رحلة عودة المفتاح إلى المحفظة، وعودة المحفظة إلى مستقرها في قاع الجيب وإطباق الفخذ الضخمة عليها، تم ذلك بشكل أبطأ، أو هكذا بدت لي حركته بدافع فضول أخذ يتكون حول ما تنغلق عليه تلك الحقيبة المحاطة بقدر مبالغ فيه من الحرص والحيطة, تصاعد هذا الفضول الطارئ الذي لم أعهده من قبل، إذ لا حقائب مقفلة، ولا أبواب موصدة تستطيع أن تثير داخلي فضولاً كهذا، فضولاً صار يتغذى من زلات لسانه ونظراته الوجلة حتى استفحل واستبد بي، ثم أخذ يحرضني على اقتحام تلك الحقيبة التي بدت كالصندوق الأسود يستفزني ما يختزن من أسرار.
حاولت إرضاء فضولي بارتكاب فاحشة اختلاس النظر, اصطدمت عيناي بعيونه القلقة ولعله أحس بما تسول به نفسي، فأدار نحوي وجهاً عريضاً مفعماً بصرامة قاسية، وأحاط حقيبته بذراعين قويين، فكرت أن أقابل هذه الصرامة بطلب ساذج.
- هل تأذن بالتعرف على محتويات حقيبتك؟!
الرغبة في إفراغ شحنة الفضول بررت تلك الفكرة الساذجة، التي لا أستبعد أن يكون جوابها لطمة من كفه الغليظة.
استبعدت أن يمد يده، فرغم تجهمه وصرامة تقاطيع وجهه إلا أن ظلال طيبة تلوح في الجزء الأسفل من وجهه، حيث تنفرج شفتاه في محاولة لتقديم ابتسامة ارتخت لها الشفة السفلى فقط ولم تكتمل منذ وقف خلفي عند بوابة ركوب القطار في الرياض وسألني بصوت مرتفع تجاوزني إلى رجل الأمن المنشغل بفحص بطاقات إثبات الشخصية.
- الجو في الدمام مناسب للمبيت في العراء؟
شخص مرح انبثق من كثبان الرمال التي لا تثمر إلا عبوساً، أو قد يكون مسكوناً بطقس غريب فأجبته:
- ليل الدمام أكثر دفئاً.
عاد بحديثه إلى الرياض.
- أردت بيع ساعتي في البطحاء، قالوا انتظر العصر والقطار يتحرك الساعة الثالثة والنصف فأطلقت رجلي إلى المحطة.
قدم موظف السكة الحديد قسيمة التذكرة وابتسامته فأسرعت الخطى نحو القطار المنتظر ركابه، دلفت من العربة الخلفية، خطوات ثقيلة تتعقبني، اتخذت مقعداً مجاوراً للنافذة طمعاً في مشهد الصحراء وضوئها عندما يستثير القطار شهوة القراءة توقفت الخطوات الثقيلة، استأذنني بالجلوس، فأفسحت له، وهو يجلس تمنى لنفسه:
- إن شاء الله أتوفق في هذه الرحلة.
وتدفق الكلام:
- قبل سنة كنت في الدمام، تجولت في الكورنيش، تعبت ونمت,,,, فأفقت في الرياض.
ثم اعتدل في جلسته وبدلاً من أن يكشف ذاك الغموض رماني بسؤال قلق:
- هل من حق الشرطة أن تعيدني إلى الرياض؟
اعتبرته سؤالاً إنشائياً، فأعفيت نفسي من إجابة متعذرة، وتركته ينسرب في ضجيج القطار.
تنفس حديث جديد تعبق من ثناياه طرافة توقعت أن تحملنا إلى الدمام فتهيأت:
- ألا توافقني على أن الزواج مسئولية.
- نعم، مسئولية كبيرة.
- تأثيث بيت، نفقة، إنجاب أطفال، تربيتهم وتعليمهم أمانة.
- حقاً أمانة كبيرة نسأل الله العون في حملها.
بدأ الانقباض المقيت القابض على وجهه يتلاشى، جلى حسن إصغائي بعض أنقاض ذاك التجهم عن مساحة وجهه العريضة، ووشج العلاقة بيننا, هش بيده ليطرد زفير صافرة القطار عن حديثه:
- طلب الوالد مني أن أكمل نصف ديني، فقلت إن شاء الله، اعتبر ذلك موافقة.
- ليس بالضرورة تعني الموافقة.
- كيف أتزوج وأنا لم أكمل تعليمي.
- الأفضل أن تكمل تعليمك.
- الوالد الله يهديه لا يؤمن بالدراسة,, إذا طولت معه الكلام، صرخ في وجهي شوف عمك الحاصل على أكبر الشهادات وشوفني.
قال هذا منفعلاً كأنه يتقمص دور أبيه، وراح يهرف بكلام لا علاقة له بالدراسة أشبه بانكسار حتمي لموجة بلغت ذروتها:
- لا يؤمن إلا بالعلاج الشعبي,, ضرب وكي,, ضرب وكي.
استمر يهذي ضرب وكي,, ضرب وكي ثم شهر يده ليستعيد حديثه:
- سأذهب إلى الدمام وألتحق بالمعهد المهني.
التفت وبصوت مقتضب:
- أين يقع المعهد؟
- وسط المدينة في شارع ابن خلدون.
اطمأن على وجود المعهد الذي فضل دخوله كما يبدو على دخول القفص الذهبي، وبصوت هادئ كنت أتوق إليه واصل:
- سالفة الزواج ما انتهت,, ليلة ناداني الوالد سعد قلت نعم.
- اترك لحيتك.
سألته:
- ما علاقة اللحية بالزواج؟
- كذا سألت الوالد وأجابني.
- لازم نمر على الشيخ لمعونة الزواج والشيخ يجب أن يرى الرجال بلحاهم، تركت الدقن، ورحنا إلى الشيخ طول الطريق الوالد يوصيني أن أكون مهذباً وألا أتكلم إلا إذا طلب الشيخ مني، وأمرني أن أقبل كتف الشيخ وجبهته.
الشيخ رجل فاضل,, انحنيت لأقبل كتفه فاستغفر الله واكتفي بالمصافحة، كفه ناعمة,, سألني أسئلة بسيطة حتى الطفل يجيب عليها.
- هل تذهب إلى المسجد؟
- نعم أربع مرات.
أنا والله صادق، صلاة الصبح أصليها في البيت، لام الشيخ والدي، الذي وبخني أمامه وقال جزاه الله خيراً:
- كن حليماً,, ابنك صادق وأهل الصدق قليل.
وختم ورقة وقدمها للوالد:
- على بركة الله.
مال إلى جانبه الأيسر استعداداً لإخراج المفتاح فتهيأت لجولة جديدة من اختلاس النظر، أخرج المحفظة ضامرة متجعدة، استخرج المفتاح من جيب يقفل بزر، ثم بسط فخذيه ليحتضن الحقيبة، فتحها بقدر أوسع فاستطعت تمرير نظراتي بيسر، ملف أخضر متآكل الأطراف يفترش ملابس رياضية بلون ما يرتديه المنتخب القطري، جار التقادم على لونها القرمزي فبدا شاحباً، أفرد الملف فوق الحقيبة, قدم لي ورقة ترشيحه للدخول في القفص الذهبي قائلاً:
- هذه صورة والأصل عند الوالد.
تابع استعراض محتويات الملف، شهادة الابتدائية ناجح بتقدير جيدجداً.
حديث التخرج قدم شهادة حسن السيرة والسلوك، ثم وارى بسرعة ورقة متآكلة لمحت عليها ختم وزارة الصحة في الحقيبة، صفق بغطائها وصرح محتداً:
- قلت للوالد أنا لا أقبل أن أكون وأسرتي عالة على أحد.
أصر الوالد على موقفه:
- لا تهتم ياسعد,, سأفتح لك محلاً في السوق.
استوقف سعد بائع المرطبات وطلب كأسي شاي:
- على حسابي.
بمتعة أكبر من لذة ارتشاف الشاي تابعت إجراء فتح المحفظة واستخراج ريالين هزيلين من أحد تجاعيدها الغائرة، تركا مكانهما فارغاً, هناك آلة حاسبة إلكترونية محشورة في أحد جيوبها، ربما يكون هناك أخدود سري يطمر فيه المبالغ الطائلة، التي نفى وجودها ضاحكاً:
- اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب.
تأخرت استجابتي لانشطار ضحكته المدوية، التي ألقته على قفاه فلكزني في كتفي:
- سأدبرها.
وراح يهز قبضته التي هزتني كي أستخرج من جوفي ما يشبه ضحكته، حيث كان ينبغي مني أن أبادر بانفعالها مادمت سأقاسمه لذة شرب الشاي هذه مردداً:
- سأدبرها,, سأدبرها.
حاولت استبعاد صورة بشعة رسمتها تلك القبضة المهتزة له، فاستحضرت شهادة حسن السيرة والسلوك التي رأيتها للتو في ملفه، منحتها إياه مدرسة احتضنت طفولته مصدقة من مديرها ومذيلة بختم المدرسة، وهل تكف شهادة حسن السيرة والسلوك قبضة غليظة يهزها العوز؟
قدم الشاي محاذراً رجفة القطار ورجفة يده، ثم تناول كأسه ورسم بسبابته دائرة حول ما تحمله العربة الصغيرة من فطائر وبسكويتات:
- كل هذا لا يملأ بطني.
تراجع إلى الوراء كي ينداح أمامي بطن ضخم يتسع فعلاً لأكثر من حمولة تلك العربة, كنت أمعن النظر في بطنه عندما طبطب عليه:
- من عشاء البارحة لم تدخله لقمة,, ابن حلال عشاني ودفع أجرة المبيت في الفندق.
إلى خواء المعدة أرجعت رجفة يديه وتابعت ارتشافه الشاي, بعد الرشفة الأولى سرح بناظريه من النافذة، أتبعها برشفتين متلاحقتين ثم أغلق فمه بقفلة قوية ارتطم فيها فكاه فانحبس وراءهما لسانه الذي نبهته حلاوة السكر إلى مهمة أكبر من مهمة الكلام فراح يصطفق داخل فمه بحثاً عما هو أمتع من ثرثرة استنزفت طراوته عاود ارتشاف الشاي في صمت أتاح لي التمتع بمذاق الشاي ومشاهدة التلال وهي تركض إلى الخلف آخذة بأعناق بعضها, والتلذذ بمتعة التحري، بعد أن أفرغ آخر قطرة خرج لسانه من مكمنه واندلق طريا على الشفتين الغليظتين، رمى في اتجاهي نصف نظرة انكسرت قبل أن تصلني وهمس:
- الشراب يثير الشهية.
داريت ضحكة كادت أن تكون ردي على ما قاله فطردها عن وجهي عندما أردف قائلاً:
- الجوع شين.
ماتت الضحكة وتاهت مني التلال التي كنت أتابع ركضها إلى الخلف، ارتفع ضجيج احتكاك عجلات القطار بالقضبان, دسست في كفه ما يكفيه لطرد جوعه الضاري:
- اذهب إلى عربة المطعم وتعش.
لم يفته الإعراب عن شكره وهو يوصيني بالاحتفاظ بمكانه، والانتباه لحقيبته التي وضعها في حضني:
- هذه أمانة,, عليها تتوقف حياتي ومستقبلي.
ومضى تستحثه شراسة الجوع تاركاً حقيبة تتوقف عليها حياته ومستقبله أمانة في عنقي, الآن سنحت الفرصة لإشباع فضول أشد ضراوة من جوعه مازال يحتدم داخلي، كان ينبغي من باب الحيطة أن أعرف أمانة سأحملها,,, شخص هارب حتى ولو من شبح الزواج، ليس معه ما يقيم أوده، يتوسد حقيبته في كورنيش الدمام فيفيق في الرياض، وجل في العينين ورجفة في اليدين، وأمور أخرى تستفز التحري داخل الحقيبة رفعتها بحذر كطفل نائم من حضني، وأضجعتها في مقعده، تدحرج داخلها ثقل لم تعق حركته البزة الرياضية فأحال فضولي إلى ريبة صارت تتمطى من الحقيبة المفخخة كرعب متأهب, لا بد هناك عين تترصدها، رميت بنظرة إلى المقعد المجاور فرأيت عيناً تختلس النظرات من فوق حافة الجريدة، فكرت أن أستعين على التوتر بتصفح كتاب، فلم يعني الضوء الشاحب فأغلقت الكتاب, إنه جائع، سيقذف لقمته في جوفه بسرعة ويعود ليسترد أمانته.
بزغت الاحساء عند الغروب، تثاقلت حركة القطار حتى توقف, نزل كثير من الركاب، وحل مكانهم عدد أقل، عبروا عربتنا دون ادنى التفاتة منهم إلى الحقيبة الرابضة بجواري, واصل القطار رحلته وسعد مازال منشغلاً في التخلص من جوعه، استبعدت نزوله في الهفوف، كيف ينسى حقيبة تتوقف عليها حياته ومستقبله، ربما تجددت طاقته في الكلام بعد أن أمد الجسد بالوقود، لعله من الأفضل أن يفرغ تلك الشحنة في أذن أحد المتلهين في عربة المطعم يدخنون ويشربون الشاي، مررنا بمحطة بقيق المتواضعة وسعد لم يظهر.
عبء الأمانة حملني على مراقبة من يدخل العربة ومن يخرج, أنفاسي تكاد تتوقف كلما توقف واحد بقرب مقعدنا أو تلكأ.
تطاول انتظاره فتباطأ مرور الوقت وتثاقلت حركة القطار, لم أحفل بأضواء خليج نصف القمر التي تلألأت عند التقاء الرمل بالبحر، القطار يقترب من محطته الأخيرة متثاقلاً ربما أعياه عبور رمال الدهناء, ملاهي منتزه الملك فهد تتغامز باضوائها وهي تنطلق في موجات خاطفة من المرح والمتعة وأنا مثقل بطول الرحلة وانتظار عودة سعد لحقيبته بدأ القطار يتوانى, أطلق صافرته معلناً وصوله كما أطلقت كوابحه صريراً وهي تتشبث بالقضبان وارتجفت العربة فهب الركاب يتخاطفون أمتعتهم من الرفوف فرحين بالوصول, تفاقم قلقي, أصبحت خائفاً ممن سيستلمني والامانة، فسعد لم يظهر، تجاسرت فخطوت بقدمين خائرتين مغادراً العربة من أقرب باب تاركاً الأمانة ليحملها القطار ريثما يعود سعد أو من يترصده.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved