معجب الزهراني,,, والحوارية في مقارباته النقدية 2 د, محمد صالح الشنطي |
وهو منذ البداية يحاور الفكرة السائدة منذ غوته وهيجل الى لوكاتش وغولدمان عن تطور الشكل او النوع الروائي وتطور المجتمع والتاريخ بما يشمله من منظومات وسلاسل ادبية ومعرفية وفلسفية واقتصادية، وفكرة ان الرواية الحديثة تشكلت وتطورت مع تشكل البرجوازية المدينية وتطورها، وهو يسلم بوجاهة هذه الاطروحة من منظور فلسفة التاريخ او الاجتماع، ولكنه يراها محدودة القيمة معرفياً من زاوية منجزات الدرس الالسني، فينحاز الى المنهج الجمالي ممثلاً في ذلك الدرس ضارباً صفحاً عن الدلالة الفكرية الاجتماعية، وذلك مؤكداً على منطلق التحليل الداخلي للسمات والمقومات الجمالية المائزة للخطاب الروائي، اذ يرى مع باختين ان الخطاب الروائي قادر على نمذجة وتمثيل المتعدد والمختلف من الاصوات والخطابات المتواجدة في الفضاء الاجتماعي الثقافي بكل فئاته.
وان القدرة على التأليف والتشكيل والاسلبة هي مناط الجمالية, وهو بهذا لا ينقض التوجه الواقعي في الدراسة، ولكنه يحاوره من وجهة نظر جمالية، وينفي عنه سيطرة وجهة النظر الواحدة مستحضراً تعريفه للرواية في مقدمة دراسته عن الحرية في شقة الحرية المنشورة في العددين 3/4 من النص الجديد مشيراً الى ان الرواية ترفض اي حلية او حيلة بلاغية فتأتي لغتها نثرية تقريرية جافة وشفافة تخبر وتسمي وتصف العلاقات والمواقف والظواهر في عريها الموضوعي الصارم والصادم حيناً، وحيناً آخر تغريه وتستهويه شعرية للغة الشعرية فيأتي النص كثيفاً معتماً مترفاً بالتمثيلات الاستعارية - الكنائية حتى لكأنه قصائد نثرية مطولة، فالرواية تقاوم التموذج والتنميط والانغلاق.
ونجد الكاتب ينتقل بعد ذلك ليحل المثاقفة محل الحوارية، فالمثاقفة سمة حضارية وليست جمالية وذلك لانه رأى ان دراسته للمحاولات الروائية الاولى لا تجد ما يسعفها على المستوى الفني فلجأ الى تحويل مجراها ولو الى حين، وعاد ليتبنى المقولة التي رأى انها وإن استقامت على المستوى التاريخي، لا تستقيم على المستوى الجمالي فأكد ان الرواية العربية كلها انما تشكلت في سياق علاقات الاتصال والتفاعل الايجابي مع الثقافة والحضارة الحديثتين، وإن عاد ليتحدث عن الحوارية على المستوى الذهني، ثم عكف على تحليل الثقافة الوطنية المحلية، كيف تشكلت النخبة الثقافية في المملكة، وما هي ابرز العوامل التي دخلت في تكوين وتشكيل وعي هذه النخبة, واشار الى مسألة التحقيب الثقافي التاريخي، ثم يمضي بعد ذلك الى الحديث عن التكوينات والبنى الاجتماعية وفق اسس انثروبولوجية ثم تحدث عن سيرورة المثاقفة الداخلية الخارجية والداخلية الداخلية وامدنا بفيض زاخر من المعلومات التاريخية والثقافية وقد ربط بين ذلك التحليل الاجتماعي التاريخي الثقافي والابداع، ويمضي الى مقاربة مجموعة من الظواهر الادبية - الثقافية التي تبدو محيرة على نحو ما رصدها من منظور سيوسيوانثروبولوجي ويقرر ان كل من يتابع تحولات الافكار والقيم والعادات في حياتنا لابد وان يربط بين هذه الظواهر (الادبية) - (الابداعية) وبين ظاهرة اجتماعية ثقافية خطيرة وهي ظاهرة الانفصال والازدواجية بين ما يعاش ومايقال.
وقد انتهى الناقد من دراسته الى الدعوة الى تدشين خطاب اصلاحي جديد يتجه إلى عقل وذوق الانسان بعد ان حقق الخطاب التنموي منجزات وبنى عمرانية مادية تثير الاعجاب، والى تكريس الوعي بأهمية الدور الحضاري للنخب الوطنية في المجتمع كله وبمختلف مؤسساته الادارية والتربوية التعليمية والاقتصادية والاعلامية والاجتماعية.
وفي دراسته للرواية (شقة الحرية) (4) يشير منذ البداية الى ان منهجه في المقاربة لا يخضع لاي احكام او تصورات مسبقة، فهي قراءة محايثة وملائمة للنص، وهي تحاور النص، فهي حوارية الطابع قائمة على التوصيف والتحليل والتفسير لا قبل لحظة القراءة ولا بعدها، فهي قراءة موجهة الى جماليات النص (الشعرية السردية)، ويحدد محاور القراءة بالاستمتاعية الاستكشافية في المستوى الاول ثم القراءة النقدية الجادة المتأنية التي تطمح الى الفحص والاختبار والتدقيق من حيث بناه وتقنياته ولغاته وابعاده الدلالية ثم نلحظ العناوين التالية: حرية الكتابة/ حرية القراءة حيث يبدأ بالعناوين، ثم قراءة توصيفية للنص: حكاية النص حيث يلخص الناقد الرواية ويصنفها في اطار رواية الرحلة التعليمية وما يتميز بين هذا النوع حيث التغير والتحول والتطور وقوة حضور عناصر السيرة الذاتية طبقاً لباختين في جماليات الابداع اللغوي ثم: في حواشي النص (النصوص الموازية طبقاً لجيرار جنيت ثم: في المتن الروائي الفصول والاجزاء والمنظور الروائي والمقاطع الحوارية ثم المشهيات اللغوية اي مجموعة الاساليب التي يرد بها الخطاب في النص الروائي باعتباره من انجاز كاتب يعي ضرورة استثمار العديد من طرائق التعبير، وهنا يشير الى اربعة مستويات: اللغة السردية ذات الطابع الاخباري الاعلامي ثم اللغة الادبية الرفيعة، ثم اللغة اللهجية واللغة المعرفية ثم الابعاد الدلالية للنص حيث يحاول في الخاتمة تحت عنوان اشكالية الكتابة الروائية المحلية موضعة النص في سياقه الادبي الاجتماعي وينتهي الى ان وعيا متزايداً بأن التراكم في المنجز الابداعي وحده يفضي الى التطور والتحول كما هو الحال في المجالات الفكرية والاجتماعية, وان الوعي الحدي المؤدلج قد بدأ يتراجع.
وهكذا تبدو هذه القراءة انموذجاً للمنحى النقدي الذي سلكه الدكتور الزهراني في مقارباته النقدية ونستطيع من خلال استعراضنا لمجمل مقارباته ان نستنتج ما يلي:
اولاً: اهتمام الناقد بالحوارية وطموحه الى تحذيرها في التربة المحلية ابداعاً ونقداً.
ثانياً: استحضاره لثقافته الاجنبية ممثلة في باختين وتودروف واضرابهما فهو يكثر من الاستشهاد بمقولاتهما ويصطنع منهجهما في المقاربة.
ثالثاً: يحاول ان يختط له منحى خاصاً يؤصله مستثمراً رصيده الثقافي الضخم ومحاوراً به اضرابه، وهو يحاول ان يكرس خطاً نقدياً جمالياً.
رابعاً: للناقد رؤية اجتماعية تاريخية تنأى به عن الادلجة والانحيازات الفكرية، يتكئ فيها على منحى في التحليل يربط بين المنجز الابداعي والبنى الفنية والفكرية.
خامساً: يهتم الناقد اهتماماً شديداً باستكشاف جماليات النص مستثمراً معرفته التقنية وطرائق التحليل في النقد الغربي.
والاهتمام باللغة وجمالياتها في السرد على وجه الخصوص يشكل محوراً مهماً من محاور المنهج النقدي عند معجب الزهراني، بل هو بؤرة استقطاب لكافة جماليات النص، وذلك ما تميز به الالسنيون، وهي مناط الحوارية التي تمتد لتصل ما بين الخطاب النقدي والخطاب الابداعي على اختلاف منحى كل منهما وطبيعتها، حيث النقد يرد الخصوصيات الى العموميات والجزئيات الى الكليات في حين يركز الخطاب الابداعي على خصوصية التجربة التشكيلية في مستواها اللغوي بخاصة والبنائي بعامة، لكن هذا التمايز بين الخطابين - كما يقول الناقد - لا يعني انه ليس بينهما علاقات اتصال حواري باعتبارهما جزءاً من المنظومة الثقافية العامة في المجتمع.
ويركز الدكتور معجب على خصوصية اللغة في دراساته عن السرد، ففي مقاربته لمجموعة عبدالله باخشوين الحفلة (5) يتحدث عن اللغة الهذيانية الحلمية بوصفها تمثل حالة انزياح، بل خروجاً وشذوذاً بمعيار اللغة العادية - فاللغة - من منظور لعبة الكتابة التي يمارسها الكاتب بوعي ومقصدية كما يقول - تعبر عن رؤية وموقف من اللغة وعن العالم، ووقفاً لمنحاه في التأكيد على (الحوارية) يؤكد ان الوظيفة التعبيرية المباشرة لهذه اللغة (الهذيانية) في هذا المقام هي البوح والتنفيس ، إذ إن اللغة (الحلمية - الهذيانية) منولوجية بطبيعتها حيث تتجه من الذات الى الذات، لكن البعد الحواري ليس غائباً عن هذه اللغة لانها تحولت - هنا - بالضرورة, ويعرض لمسألة التناص عند حديثه عن الاغتراب والاستلاب ويحاول ان يصحح بعض المفاهيم حول هذه الظاهرة.
ويومئ الى ان اللغة الهذيانية - الحلمية ترميزية وادبية فهي ذات طبيعة جمالية فنية استناداً الى هذه الخاصية والى شرط الخصوصية والذاتية.
ويعتبر ان ابرز ملامح جمالية هذه اللغة التي يستثمرها الكاتب تتمثل في بدئه القصة بلغة تبدو سردية عادية تنقل الخبر والمعلومة وترصد الحدث بحيادية تبلغ حد البرودة او اللامبالاة ثم ما ان تتقدم في القراءة حتى تخيب توقعاتنا وتتولد فينا الصدمة اثر الصدمة والمفاجأة عقب المفاجأة لأننا نتبين ان ما نقل الينا من اخبار ومشاهد انما ورد في سياق حلمي هذياني مترع بالغرابة والفانتازيا، مما يحدونا الى اعادة استكشاف لعبة الكتابة من جديد، ويعرض لمفهوم التقريب الشكلاني كما اوضحه شكلوفيسكي في قصة يقظة مبكرة، يرى ان هذه الظاهرة متولدة عن الانتقال العفوي من مستوى لغوي الى آخر، كذلك فإنه يتحدث عما يسميه جماليات الجسد كبؤرة مركزية في هذه اللغة الحلمية الهذيانية.
** ولا يغفل الدكتور معجب التيمة في الاعمال السردية، بل يفرض عليه العمل ان يقاربها - احياناً - كما فعل في قراءته لمجموعة اميمة الخميس والضلع حين استوى (6) فهو يرى ان هذه المجموعة تكشف عن جملة قضايا وتساؤلات واشكاليات بعضها يخص كتابة المرأة في شروط اجتماعية ثقافية, فثمة مستويات في مقارباته للنصوص، وتتداخل هذه المقاربات في بعض مستوياتها مع حقل النقد النسائي حيث تعالج النصوص من وجهة نظر المرأة ونزوعها الى تحقيق شرط وجودها الخاص عبر كتابة ابداعية تميزها عن الرجل، ويحرص الناقد على ادراجها في سياق الكتابة النسائية الجديدة التي تمثلها جملة من الكاتبات السعوديات فالمرأة هي النواة في التيمة السردية، فثمة نماذج نسائية تتشكل في مختلف القصص، وهي نماذج غير سعيدة كما تكشف قراءة الناقد من خلال استعراضه لتمظهرات التيمة المركزية كما يقول.
قراءة لنموذج من مقاربات الناقد للشعر
رياح جاهلة وأخرى تنمي شجرة الشعر
بعكس التمهيد الطويل الذي استهل به الدكتور معجب الزهراني مقاربته النقدية لديوان رياح جاهلة للشاعر محمد عبيد مناخ التلقي في الساحة، والخشية من التربص وسوء التأويل وغموض بعض المفاهيم المتصلة بالابداع والنقد، ولهذا فإنه قد عمد الى بعض المقدمات التي رأى انها ضرورية قبل الولوج الى رحاب النص موضوع الدراسة، وقد احترس الناقد حين اشار الى ان تجربة الشاعر لما تزل تبحث عن صوتها الخاص بعد ان حسمت امر الشكل بصراحة ووضوح، فالشاعر قد اصدر مجموعته الاولى (الجوزاء) وهذه هي المجموعة الثانية وقد انتهج فيهما اسلوب (قصيدة النثر) وهذا ما يؤكد ما ذهب اليه الدكتور الزهراني من انه حسم امر الشكل وان كانت تجربته مازالت موضع النظر.
** وبادئ ذي بدء اود ان اشير الى انني احس بمدى الصعوبة التي تواجه الناقد حينما يتصدى لدراسة ديوان كامل من الشعر الحديث، إذ يجد نفسه مضطراً الى اختيار مدخل محدد للتعامل مع النص فليس من الممكن معالجة النصوص معالجة شاملة، ومعظم الذين انبروا للحديث عن اتجاهات هذا النمط من الشعر اختاروا المدخل اللغوي، فهوا اهم المداخل قاطبة وقد وُفق الدكتور معجب الزهراني اذ اختار هذا المدخل الذي انطلق منه فقارب جماليات النص من خلاله بشيء من الاحاطة لا اقول الشاملة ولكن (المعقولة)، فقد تحدث عن بعض الظواهر الاسلوبية الاخرى وخصوصاً عنصر المفارقة والحكاية والمنهج السوريالي والحلم والتناص او التداخل مع اشكال فنية اخرى غير لغوية، ثم استثمار الشعرية الصوفية وما الى ذلك من ظواهر جمالية، كما اشار الى مسألة توزيع النصوص عند الحربي وغيره واخذ عليه وعلى زملائه التقصير في هذا الجانب، واشار الى التداخل بين المستويات المختلفة في النص الواحد وسلبيات هذا التداخل كما المح الى بعض الظواهر الخاصة الاخرى.
وما اود الاشارة اليه هو ان المستويات التي تحدث عنها الدكتور الزهراني في لغة الديوان تتسق مع الاتجاهات العامة في لغة القصيدة الحديثة، فقد اشار محمود امين العالم في دراسة له تحت عنوان لغة الشعر العربي الحديث وقدرته على التوصل الى ثلاث ظواهر تعبيرية في الشعر الحديث التيار الاول اسماه تيار التعقيد الذي يصل احياناً الى حد الابهام وانعدام التوصيل ومثل لهذا التيار بالشاعر محمد عفيفي مطر في قصيدة (امرأة: اشكالية علاقة), والتيار الثاني اطلق عليه اسم تيار التجريد دعوى التجاوز الميتافيزيقي والصوفي، وهو تيار مثقل بالخبرات الثقافية المجردة على حد تعبيره، ومثّل لهذا الاتجاه بأدونيس في قصيدته (كيمياء النرجس حلم).
** اما التيار الثالث فهو تيار التجسيد الواقعي كما اسماه وقد ميز هذا باسلوب الحكاية والتفاصيل اللحظية الآنية عبر الارتباط بالواقع التاريخي، ثم الدراما التي تتساقط عمودياً على هذا الخط التاريخي الافقي متقطعة وتوتره وتعمق دلالته وايحاءاته، ثم الغنائية بما فيها من تجديد ايقاعي وذاتية وصور متنامية افقياً، وقد مثّل لهذا الاتجاه بأمل دنقل وأحمد حجازي والفيتوري ومحمود درويش.
ويتبين من مجمل مقاربات الدكتور الزهراني اهتمامه بجماليات النص عبر مداخلها الحديثة، وهو يصرح بانه ينتمي الى هذا المنهج الجمالي، معتبراً اياه اتجاهاً غالباً يمثله اركان المدرسة الحديثة في الساحة الثقافية المحلية، ولكن - من الواضح - ان الناقد لا ينقطع لهذه الجمالية في معالجته النقدية انقطاعاً تاماً، بل هو يولي الاطار التاريخي والاجتماعي اهمية كبرى، بل هو منشغل بمسألة المرجعية، وإذا كان المصطلحان الاثيران عنده هما الحوارية والمثاقفة فالمرجعية التي ينتميان اليها لغوية اجتماعية، فاللغة عنده لا تنفصل من سياقها الاجتماعي التاريخي، ولذلك فإن الناقد يهتم بذلك السياق في مرجعيته اللغوية الجمالية في جل مقارباته وخصوصاً ما تعلق منها بالسرد، فهو يهتم بالجانب الوظيفي قدر اهتمامه باللغوي، إذ من غير الممكن اغفال المرجعين ما دامت مادة المعالجة لغوية ابداعية.
***
الهوامش
(1) مجلة الفصول، القاهرة، العدد الرابع، م15 شتاء عام 1997 ص195.
(2) النص الجديد، دار الخشرمي للنشر والتوزيع، قبرص، العددان السادس والسابع.
(3) القى هذه الورقة في مهرجان الجنادرية الحادي عشر ثم نشرت فيما بعد في مجلة قوافل التي تصدر في الرياض عن النادي الادبي بالرياض.
(4) نشرت هذه الدراسة في النص الجديد، العدد الخامس.
(5) نشرت هذه الدراسة في قوافل، السنة الاولى العدد الثامن في رجب 1414ه.
(6) نشرت هذه الدراسة في النص الجديد، العدد الرابع، اكتوبر عام 1993.
|
|
|