Sunday 24th October, 1999 G No. 9887جريدة الجزيرة الأحد 15 ,رجب 1420 العدد 9887


على الهامش
للأصوات وجوه (1)

للكتابة الصحفية الأدبية نكهة خاصة تتلاءم مع روح العصر، بوصفها كتابة حافلة بالانفتاح على الخطاب الصحفي التلقائي ذي النفس المتسرع من جهة، كما هي حافلة بجمالية اللغة الشعرية، وتشكيلاتها المجازية، وعباراتها الايحائية من جهة ثانية بحيث يجد المتلقي المثقف ذاته في مواجهة مقالة ادبية لها الكثير من خصائص الاجناس الادبية المتشابكة المتداخلة، وفي الوقت نفسه تكون هذه المقالة ذات خصائص صحفية تتماشى مع تقنية مساحة الخبر التواصلي والرأي التأملي وخفة التناول باستخدام اللغة العربية الوسطى (اللغة الصحفية).
ولعل التعمق اكثر فأكثر في قراءة هذه النصوص الاشكالية، على الاقل من جهة مشروعيتها، ومحاولة التأسيس لها جمالياً وفنياً، قد يشعر القارئ/ الناقد انه يدخل نفسه في متاهات كسر احادية الجنس الادبي، لبناء نظرية كلية النص، ليس على طريقة العيوب الفنية التقليدية التي همشت كتابة مطلع عصر النهضة غير المجنسة، وإنما لصالح بناء ايجابية التداخل بين عدة اجناس في النص الواحد، وان هذا التداخل عندما يكون فنياً جمالياً متقناً، يكسب النص قوة وفاعلية، لا ان تكون المسألة مجرد عبث وتلاعب باللغة, وبالتالي تغدو مسألة ان يدخلنا النص الجديد بوعيه الفني في حيز القصة القصيرة باستخدام بعض تقنياتها، وفي فضاء القصيدة بلغتها الشعرية المتوترة المكثفة، وفي خطاب الدراما التضادي، وفي تقنية التشكيل,, مسألة توحي في نهاية المطاف بأننا امام نص منفتح على عدة اشكال: قصة، وقصيدة، ومقالة صحفية، ومقالة نقدية،ومقالة أدبية، وخاطرة، وسيرة، وخبر، واسطورة او خرافة,, وكلها اشكال ممكنة التحقق في النص الجديد او النص التجريبي ان صح هذا التعبير، ومن هذه الناحية يصبح النص مستفزاً لقارئه، مثيراً لسخطه، ومنتجاً لعلاقات القبول والرفض، وفي الغالب لا تحظى النصوص الجديدة بتعاطف كبير من قاعدة القراء العريضة، بحجة انها نصوص غير مفهومة، او هي نصوص غير واضحة التجنيس، او انها نصوص سهلة الانتاج، اذ قد يتصور البعض ان بامكان كل حامل قلم ان يكتب على سبيل المثال، قصة، او خاطرة، او قصيدة نثر,, والمسألة ليست بهذه البساطة او المعيارية، وانما هي ضرورة بناء علاقة جديدة مع الكتابة الجديدة المتجددة بايجابياتها وسلبياتها، وقد قيل: لا يخلو نص من جمالية ما، كلما يغيب النص البشري مطلق الجمالية!!.
وقد انتبهت الى هذه الحقيقة المتداخلة في نصوصها نجوى هاشم كقارئة لنصوصها عندما جعلت عنوان كتابها (للأصوات وجوه) حين جاء العنوان يحمل دلالة واضحة مشيراً الى كون الاصوات (اللغة والكتابة) وجوهاً متعددة، وانه لايمكن في اي حال من الاحوال ربط النصوص الجديدة التي انتشرت في الثمانينات والتسعينيات تحديداً باطار تجنيسي تنطبق عليه نظرية نقاء الانواع التي نادى بها ارسطو، وكانت سمة واضحة في اغلب النصوص الكلاسية، حيث القصيدة قصيدة، والقصة قصة، والملحمة ملحمة، وما الى ذلك بالمفهوم المعياري لتصنيف النصوص.
وتشير الكاتبة في نصها (الرياض وتحقق الاحلام) الى هذه الاشكالية المتعددة الاصوات، فنجد نصها هذا يتداخل مع النقد، والقصة، والسيرة الذاتية، والشعر، ومن ذلك ان تقدم الكاتبة شهادة نقدية، بل ربما ادبية، او ان شئت صوفية عن الكتابة، في افتتاحية النص، اذ تقول:
(للكتابة اشكال متعددة
ووجوه مختلفة
وملامح وخطوط فرشاة تعتنق السفر والترحال.
للكتابة حروف تتناثر بألوان خرافية، وكلمات احياناً يشعر كاتبها بأنه يقيم حرباً ضد ذاكرته.
بعيداً عن دهشة التذكير، ومرارة الغياب، للكتابة صور تذوب، وتشتعل، وتكشف الازمنة التي توشك على الاحتراق.
للكتابة صداقة حميمة لمن لا عناوين لهم، او خرائط تحمل الى نفوسهم.
للكاتب، والكتابة، ارتباطات تسكنهما كلما التقيا في منطقة وسطى تحمي كليهما من فقدان التوازن).
ومن يتابع قراءة اي نص من النصوص العشرين في الكتاب لابد ان يتواجه مع عدة اسئلة شائكة في الفن والرؤى والجماليات حول طبيعة الكتابة الادبية الجديدة، ابرزها: ما التجنيس المحوري للكتابة داخل هذه الكتاب؟ وهو سؤال لن يحتمل اجابة اكثر من وصف الكتابة بأنها نصوص ابداعية متداخلة الاجناس، حتى تغدو عناوينها العشرين حاملة لهاجس الكتابة الجديدة التي تسعى الى اسطرة اللغة، وتوليد مفارقاتها، بما يشعر باحالة الكتابة الى حالة تداعيات في التوهم والحلم وتوليد اللغة الشعرية المكثفة,, وكل ذلك بوصفه كسرا لتقنية الكتابة التقليدية.
ولنتأمل عناوين النصوص: (نهر الرماد)، (الحلم في خزائنه يتوارى)، (اختصار المدارات المستيقظة)، (الحقائب الخالية)، (قوس قزح لا يزال يشتعل في الدماء)، (صهيل الوجع)، (للأصوات وجوه)، (حصار الحلم والجليد)، (عفواً تمسك بتوازنك)، (اخضرار الأحلام الصامتة)، (ملامح لإنسان يحاول ان يكون)، (وجوه بصوت الرياح)، (للإبحار استراحة راكضة)، (طرقات على وجوه الحلم القديم)، (تمهل قبل السقوط),,, الخ.
وكما هو ملاحظ من هذه العناوين المختزلة لرؤى نصوص الكتاب، فإن العالم الذي تبثه هذه العناوين، رغم ما فيه من رومانسية وشفافية تدمج بين الانسان والحلم، هو عالم كابوسي بطريقة او بأخرى، حيث العالم هو نهر الرماد، وفيه الحلم يتوارى، والحقائب خالية، والوجع صهيل، والدعوة الى التوازن، وعدم السقوط للذات المأزومة المختنقة بهذا العالم,.
لقد اعتمدت الكاتبة على كاف الخطاب، حيث تخاطب الآخر المعني في توجيه خطابها الذي يتكئ على ضمير المخاطب في اغلب النصوص، وهذا الآخر هو المرتد الى الذات الممتدة في الإنسان المبدع المتوحد في تعدديته الشكلية بتعددية النصوص نفسها، واهم صفات هذا الآخر/ الذات هي صفة (قفا نبك)، فهي صفة تصهل بالوجع: (يحاصرك الزمن المر، يجلدك الخوف بسياطه، ووشوتك الداخلية لا تهدأ، ولا تستكين,,) والمخاطب/ الآخر في الذات، او الذات في الآخر المبدع هو حلم المعاناة التي تتمدد في افتتاحيات النصوص: (محكوم عليك ان تنضم الى لائحة الشتاء والهروب من مناطق الكشف عن ترف الخيبة), ويبدو ذلك النهر (نهر الرماد) الذي طالمنا فتشت عنه، واجهدت، وأنت تحلم برؤياه، يبدو واقعا منتظم العقد و(تحملك كثير من لحظات الغياب الى السفر المفاجئ في وجدان نفسك) و(أحياناً كثيرة تحلم ان تكون ذلك البحر الماهر الذي يرفع الشراع للريح في اي لحظة مسكونة بالهروب) و(عندما يضيق المكان بك حتى تصبح انت اكثر اتساعاً منه) و(يستهويك كسر حاجز اعتيادك على نفسك، واحتلال هذه النفس كل الاماكن داخلك وحولك).
فمثل هذه العبارات التي تفتتح بها الكاتبة نصوصها توحي لنا بتوق الشخصية الى الانسلاخ من كل الاعباء التي تكبلها في مواجهة العالم المحيط، لتنفتح هذه الشخصية المتأزمة بالمعاناة كقيمة مطلقة على الحلم والحياة والاشراق، وهنا تكون الكتابة هاجساً مكتنزا لثنائية هجاء الواقع المألوف والعادي والحياتي في مقابل البحث عن عالم بديل غير متحقق او غائب عموماً، لأنه طوباوي، من خلال المحلوم الذي تتعدد به صوره في افتتاحيات نصوص اخرى تُفِّعل سياق الحلمي التخيلي.
حسين المناصرة

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved