أحاديث أشبه بالأساطير تلك التي بدأت تظهر من ملفات الماضي وحقائق نعيشها نحن مع حاضرنا الذي نتمنى ان نختلف معه حول ما يدور فيه من أحداث.
في احدى القنوات الفضائية شاهدت فيلماً وثائقياً عن اعلام القرن وكان الحديث في تلك الحلقة عن فيدل كاسترو رئيس كوبا الذي سجل ترتيبه الثالث مع زعيمين آخرين حكما الجزيرة منذ عام 1923م.
وفي عام 1959م انهى كاسترو حكم سلفه باتستا بعد حرب تحرير كلفت الشعب الكوبي خسائر في المال والرجال وأغلى من تلك الخسائر الوقت الذي تم اقتطاعه من حياة كل انسان في هذه الجزيرة ولم يكن مستغرباً ان يترك باتستا حكم كوبا فقد انتزعها من دكتاتور آخر في أواخر الثلاثينات بقوة السلاح.
وفي مبررات كل تغيير للسلطة كانت هناك اتهامات بقيام الزعيم المخلوع بتحويل اموال الى اوروبا تزيد عن ثلاثمائة مليون دولار والتي تعد جزءاً من عرق الشعب وكدحه في مزارع قصب السكر.
وفي ذلك الوقت كانت القوة الشرائية للمليون دولار تزيد عن عشرة مليارات لو تمت مقارنتها في القرن الذي نعيش فيه.
الأوروبيون في اوروبا او في امريكا تفيض في خزائنهم اموال الآخرين منذ النصف الاول من القرن التاسع عشر ومن بين تلك الاموال ما تم اخذه نهباً او غصباً,, ومنها ما تم تحويله طواعية لكن النشاط الجنوني في تحويل الاموال الى اوروبا وامريكا لم يتضح سوى في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد زادت الفوائض الى درجة تأسيس بنوك بأموال اجنبية يتم الاحتيال على اوضاعها لتمكينها من الافلاس حتى لا يرى الاوروبيون انفسهم وقد أصبحوا ارقاء دون علم منهم.
واليوم تزخر كبرى البنوك في سويسرا والنمسا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الامريكية بأموال تتدفق عليها من المشرق العربي وكأن بلدان الشرق قد خلقت لتكون منبعاً في حين تصبح بنوك الغرب موطناً ومرتعاً لما يتدفق من هذا النبع.
ومنذ عام 1949م وحتى اللحظات الأخيرة من كتابة هذا المقال لا يمكن حصر الأموال التي امتلأت بها بنوك اوروبا والفوائد التي جناها الاوروبيون والمشروعات الصناعية التي قامت من ريع اموالنا.
واذا لاحظنا ارض اوروبا وخيراتها وجدنا انها لا يمكن ان تعيش من مدخراتها فهي اراض فقيرة من حيث المعادن بأنواعها المختلفة وليس لديها سوى السهول الخصبة في احواض الانهار التي تتجمد جهاتها الشمالية طيلة فصلي الربيع والشتاء.
الأوروبيون امم محظوظة فعلاً، وبدون ادنى شك، فعلى مدى مائة عام عاش الاوروبيون على انعام الدول الاخرى والأمم التي لم تستطع ان تمتلك ناصية امرها والشعوب التي لم تستطع بعد خلق الثقة بين طبقاتها وشرائحها ومكوناتها.
نحن في الشرق العربي لا يزال الخوف يطاردنا في كل ناحية من نواحي جغرافيتنا من المحيط الى الخليج, ليس الخوف من اليوم او الأمس او الغد,, بل الخوف من الذات التي لا تزال ذات مكامن مجهولة.
لقد تعمقنا في مكامن ارضنا فرأينا سواد الذهب واستخرجناه من باطن الارض لنعيش من ريع هذا الذهب لكننا لم نكتشف انفسنا لأننا لا نعرف ما هي وسائل وآليات وطرق الكشف عن الذات.
على مدى خمسين عاماً مضت ونحن نثرى لكن علامات الثراء واضحة على وجوه أمم اخرى، وعلى مدى خمسين عاماً تزداد قوة لكن قوتنا مظهر شكلي مستعار، وعلى مدى خمسين عاماً ونحن فقراء بالرغم من ان تاريخنا مشيد بمادة صلبة هي نفسها تلك المادة التي بنيت - ولا تزال تبنى - المثل العليا منها.
ليس الحظ السعيد نفسه وراء قوة وثراء الأوروبيين بل يقف الى جانبه مكونات اخرى ساهمت في تعميق مفهوم الاغراء وتنويع اتجاهاته ومساراته.
هناك من يحول امواله الى اوروبا لأن المتعة والحرية مكونان أساسيان للحياة بما في ذلك قيمة الانسان وشرعية مطالبه.
وهناك من يحول امواله الى اوروبا لأن سوقها عامرة ومنتجة ولا يمكن ان تنهب فيها الأموال الا تحت غطاء قانوني.
وهناك من يحول امواله الى اوروبا لانه قرر ان يحمل جنسية احد بلدانها.
وأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها مازالت تقف وراء ثراء الاوروبيين، وستظل عوامل الثراء مستمرة لأننا بعد لم نجد الوقت لخلق الثقة فيما بيننا ومتى حان ذلك الوقت ستعود لنا اموالنا مضاعفة.
|