عزيزتي الجزيرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دعونا نفتش عن مذكرات مدرس متقاعد محاولين قراءة يومياته والابحار في اعماقه بعد ان سافر في قافلة التقاعد ووصل إلى تلك المحطة التي طالما تلهّف إليها كثير من المعلمين وهم يمارسون رسالة تتطلب جهدا متواصلا وصبرا دائبا وعطاء مستمرا,, وترجّل الفارس تاركا ميدانه الذي طالما صال فيه وجال بعد ان حمل الشعار وكان في مهنته فارسا لايشق له غبار.
سنين طويلة اعتاد فيها ان يركض خلف كل كلمة من شأنها ان تصلح طالبا او تفيد تلميذا,, سنين طويلة كان فيها يذرع دروب المدرسة ويجوب ساحاتها سعيا حثيثا يراقب طلابه راعيا سلوكهم ومقوما تصرفاتهم ومصححا مبادئهم ومنميا خبراتهم ومغذيا عقولهم بألوان المعرفة.
وها هو يقف على ضفاف التقاعد والهواجس الكثيرة تملأ رأسه والمشاريع المتنوعة تطرف باب فكره,, ماذا يفعل؟ وأي السبل يسلك لملء وقت فراغه؟ وبأي الامور ينشغل؟ وكأني به وهو يمسك (هوية التقاعد) يسترجع ذكرياته الجميلة في رحلته الشاقة المفعمة بالمعاناة اللذيذة: زملاؤه الكرام,, طلابه الاعزاء,, مدرسته الرؤوم,, سبورته التي رصدت مفردات عطائه.
سيجد نفسه بلا موعد في زيارات عذبة لمدرسته حيث مناخه الدافئ الذي اعتاد أن يقيم فيه حوارات ساخنة حول هموم التدريس، ومشاكل النِّصاب، ومشاغبات الطلاب,, حينما كان يزرع الاسئلة فتنبت شجرا مثمرا في عقول طلابه ويحتسي فناجين كفاحه المشرّف ويحلّق بأعباء المهنة الجليلة.
اعذروه إن عاد فلقد أدى الأمانة وأجاد,.
عجبي منك أيها المعلم وأنت تتوق إلى شاطئ التقاعد وتعزف كثيرا على اوتاره وحينما تصل إليه لا تلبث ان يستبد بك الحنين إلى فضاء التدريس وينالك الشوق إلى آفاقه الطيبة، وكأن التقاعد استحال الى غربة كئيبة، كمدينة بلا سكان,.
اعذروه إن عاد ودعوه يحدثكم,.
سيخبركم عن ميدانه الرحب الاصيل، وعن دربه المرّ الطويل، وعن درسه الصعب الثقيل,, عن حكايات الصباح، عن بطاقات النجاح، عن مسافات الكفاح,.
ويخبركم عن طلاب خرّجهم، وتلاميذ درّسهم، ورجال عاتبهم,, عن مشرفٍ زار وأطال، ،مدير جار ومال، وطالب ينطق الجيم دال,, ولم يزل يحدثكم,,,!.
كيف رفع الفاعل ونصب المفعول، وبنى الفعل الماضي للمجهول، واختصر درسا كاد يطول,.
عفواً أستاذنا المتقاعد: فلم تعد خارج نطاق الخدمة، ولم تُحَل للارشيف، فمازلنا نطمع في الحصول على خلاصة تجربتك وثمار خبرتك وموجز كفاحك في اعتراف جميل عابق بحب المهنة وشرف الانتماء إليها,.
عُد إلى عشك القديم عبر زيارات لذيذة فنحن بحاجة إلى حديثك الطيب ولقائك المبارك ونصائحك الكريمة وتجاربك المبهجة العامرة بمواقف البذل والعطاء,, اعذرني استاذنا الكريم عندما اقتحم اسوار خيالك وأعبر حدود فكرك غير اني حاولت ان اقرأ تاريخ كفاحك وأرصد معطيات مشاعرك وأتأمل آفاق احوالك وأنت تحت مظلة التقاعد,.
أجل عُد إلى مدرستك زائراً عبر تواصل جميل,, فهناك ستجد مصابيح أضأتها وقناديل أشعلتها وقيما غرستها ومواقف رسمتها وعطاءات صنعتها ولن تستطيع ان توصد ابواب حنينك حتى لو أبحرت فوق امواج المشاغل,, عُد فستجد صدى صوتك يلامس جدران فصولك، ولا تخش شيئا فلن تعطى حصة انتظار !, وربما رأيناك تقيم حوارا وجدانيا مع نفسك وأنت تتجول في ساحات مدرستك عبر أول زيارة لها بعد التقاعد ولن نستغرب حينما نقرأ في جبين خيالك حروف الشوق وملامح الحنين، فلم تكن مهنة بل كانت رسالة شكلت مفردات مشاعرك ولوّنت اوراق عاطفتك,, واعلم ان المجتمع لن ينسى فضلك ولن ينكر جميلك,.
محمد بن عبدالعزيز الموسى
معلم ثانوي - بريدة