أسلفت تسبب أمراء الطوائف في تمزيق وحدة المسلمين بالأندلس، وخنوعهم الذليل لملوك النصارى حتى أُخذت الأندلس من أقطارها بسببهم,, ومع هذا كانوا متنمرين على رعيتهم، مثقلين عليهم بالضرائب، مسرفين في البذل لمن لا يستحق، حارمين من يستحق، ظالمين لمن ليس في حاجة إليهم,, قال محمد عبدالله عنان:
كانوا ملوكاً ضعافاً في وطنيتهم، ضعافاً في دينهم,, غلبت عليهم الأثرة والأهواء الشخصية إلى أبعد الحدود، ونسوا في غمارها وطنهم ودينهم، بل نسوا حتى اعتبارات الكرامة الشخصية، واستساغوا لأنفسهم أن يتراموا على أعتاب الملوك النصارى، وأن يستعدوهم بعضهم على بعض,, لا في سبيل قضية محترمة، ولكن في سبيل اقتطاع بلدة أو حصن من مملكة شقيقة، أو التنكيل بأحد الأمراء المجاورين,, وقد انتهى أمراء الطوائف في ذلك إلى درك يستحق أن يوصف بأقسى النعوت، ويكفي أن نستعرض في ذلك موقف ملوك الطوائف إزاء نكبة طليطلة، وتخاذلهم جميعاً عن إنجادها وقت أن حاصرها ملك قشتالة وصمم على أخذها، وهم جميعاً- إلا واحداً منهم هو أمير بطليوس الشهم- ينظرون إلى استشهاد المدينة المسلمة جامدين لا يطمعون إلا في رضاء ملك قشتالة، وفي سلامة أنفسهم,, وقد كان ملك قشتالة يعاملهم حسبما رأينا في غير موطن معاملة الأتباع، ويبتز منهم الأموال الطائلة باسم الجزية، ويعامل رسلهم وسفراءهم معاملة الخدم، ويكفي أن نتلو في ذلك ما سطره ابن بسام في الذخيرة من وصف مثول سفراء ملوك الطوائف لدى ملك قشتالة وقت نزوله أمام طليطلة وهي على وشك التسليم إليه، وما كان يتسم به موقفهم من المذلة والخنوع، وفقد كل واحد كرامة قومية.
ولم يكن ملوك الطوائف في سياستهم الداخلية وإزاء شعوبهم أفضل موقفاً، ولا أحكم تصرفاً، فقد كانوا طغاة قساة على رعيتهم يسومونهم الخسف، ويثقلون كواهلهم بالفروض والمغارم لملء خزائنهم وتحقيق ترفهم وبذخهم,, ولم يكن يردعهم في ذلك رادع لا من الدين ولا من الأخلاق، وقد كانت سياستهم الداخلية هذه مثل سياستهم الخارجية موضع السخط من شعوبهم, والطعن المر من معاصريهم من الكتاب والمفكرين .
قال أبو عبدالرحمن: وأما العلوم والآداب والثقافة فلم يصنعوها، ولم ينتشلوا شعباً أمياً عامياً، وإنما مزقوا وحدة الصف العسكري وسوق العلوم والثقافات قائمة، والعلماء كثر، والقلم منتشر، فتقاسموهم للمباهاة، ولتحول الأدب إلى ترف يضحكهم ويسليهم، وتحويل العلم إلى خدمتهم الذاتية المؤقتة,, ولا قيمة لكل ذلك في نهوض المسلمين واستمرارهم في بلد طرؤوا عليها دون قوة عسكرية موحدة تضمن امتدادهم، وتحمي استمرارهم,, بل بعض هؤلاء الأراذل من المساهمين في العلوم والثقافة، ولكن أنانيتهم دفعت بهم إلى حب التملك على رقعة من غير تقدير لعواقب التجزئة,, أو مع تقدير للعواقب مع إيثار المجد العاجل الزائف,, وفضلهم الوحيد- بمقياس جند إبليس- حرية الشبهات والشهوات في بلاطاتهم، لأن دينهم رقيق، ولهذا علا في سماء أدبهم جمال القبح,, قالنِكل عن هذه الحرية السافلة: يرجع بالأخص إلى ماكان يتسم به هذا العصر من حريات ترتب عليها الإغضاء عن كثير من القيود الدينية,, ولا سيما ما تعلق منها بتحريم الخمر، وحجب المرأة، وإلى ذيوع العلاقات الغرامية بين الجنسين .
قال أبو عبدالرحمن: يعد من هؤلاء الأدباء أبو بكر ابن عمار، وابو الوليد ابن زيدون وصاحبته ولادة بنت المستكفي، وأبو بكر محمد بن عيسى الدانيإبن اللبانة ، وعبدالجليل بن وهبون، وأبو الحسن الحصري، وابن حمديس، وأبو محمد عبدالمجيد ابن عبدون، وأبو بكر، وأبو محمد، وأبو الحسن أبناء عبدالعزيز البطليوسيبنو القبطرنة ، وأبو عبدالله محمد بن عبادةابن القزاز ، وأبو الفضل جعفر بن شرف، وابن الحداد الوادي آشي، وأبو عمر ابن دراج ,, وكل هؤلاء شعراء وكتاب، وأسمى آداب جمهرتهم مثل هذا النفس الخيامي لأبي بكر ابن القبطرنة.
ياأخي قم تر النسيم عليلا باكر الروض والمدام شمولا في رياض تعانق الزهر فيها مثل ما عانق الخليل خليلا لا تنم واغتنم مسرة يوم إن تحت التراب نوماً طويلا |
قال أبو عبدالرحمن: وللمجون والتسامح فيه مقدمات ممهدات كهذه القصة للقاضي محمد بن عبدالله بن يحيى الليثي رحمه الله، فقد حكى بعض أصحابه قال: ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه، وأراد الانصراف، فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط وأطرق، فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول:
ألا أيها القاضي الذي عم عدله فأضحى به بين الأنام فريدا قرأت كتاب الله تسعين مرة فلم أر فيه للشراب حدودا فإن شئت جلداً لي فدونك منكباً صبوراً على ريب الزمان جليدا وإن شئت أن تعفو تكن لك منة تروح بها في العالمين حميدا وإن أنت تختار الحديد فإن لي لساناً على هجو الزمان حديدا |
فلما سمع شعره وميز أدبه: أعرض عنه، وترك الإنكار عليه، ومضى لشأنه .
قال أبو عبدالرحمن: كان مثل هذا استثناء، ولكنه عند أقزام الطوائف قاعدة,, قال الأستاذ عنان: وكانت قصور الطوائف مثوى للفنون الجميلة، ومظهراً حياً لكل ما تمخض عنه ذلك العصر من زخرف وترف وأناقة، وكانت بالأخص منتديات زاهرة للموسيقى وما يتبعها من الغناء,, وكان معظم أمراء الطوائف من عشاق الموسيقى يتنافسون في اقتناء القينات الحسان البارعات في العزف والغناء، ويبذلون في ذلك الأموال الطائلة، حتى لقد بذل أحدهموهو هذيل بن رزين صاحب شنتمرية الشرق ثلاثة آلاف دينار ثمناً لإحدى هؤلاء القينات، وكان في قصورهم منهن أسراب وأسراب,, ولا سيما في قصور بني عباد بإشبيلية، وبني ذي النون بطليطلة، وكان المعتمد بن عباد يعشق الموسيقى، ويصحب الموسيقيين معه أثناء حملاته الحربية .
ومن العلماء أبو عبيد البكري، وأبو عمر ابن عبدالبر، وأبو محمد ابن حزم، وأبو العباس العذري، وأبو الوليد الباجي، وابن سيده,, ومن حكامهم المظفر ابن الأفطس الذي ألَّف المظفري من مئة مجلد، وهو أخبار تاريخية، ومسامرات أدبية.
وقال الأستاذ عنان عن أكابر الرياضيين والفلكيين:وكان من هؤلاء أبو إسحق ابن إبراهيم بن يحيى الزرقالي القرطبي صاحب الجداول الفلكية الشهيرة,, أصله من طليطلة، وقد ذاعت جداوله الفلكية ذيوعاً عظيماً، وكانت في كثير من المواطن أصح من غيرها من الجداول القديمة، وتوفي الزرقالي سنة 480ه 1087م ,.
وأبو القاسم أصبغ بن السمح الغرناطي المتوفى سنة 438ه1038م ، وكان بارعاً في الهندسة والفلك، وله كتب قيمة في الهندسة وزيج فلكي,, وأبو الوليد هشام الوقشي، وكان أبرع علماء عصره في الهندسة والفلسفة والنحو واللغة,, وتلميذه أبو القاسم سعيد بن أحمد الطليطلي صاحب كتاب طبقات الأمم وهو تاريخ للعلوم,, وقد كانت الجداول الفلكية التي وضعها أولئك العلماء المسلمون فيما بعد أقيم مرجع لألفونسو ملك قشتالة في اقتباس جداوله,, وقد اشتهر ألفونسو العالم بالأخص باعتماده على مصادر العلوم الأندلسية,, ولا سيما في عصر الطوائف، واقتباسه تقاليد العلماء الأندلسيين في هذا العصر الذي سبقه بنحو قرنين,, وكانت سرقسطة وطليطلة من أعظم مراكز الدراسات الفلسفية والرياضية في القرن الحادي عشر الميلادي,, وكان المقتدر بن هود وولده المؤتمن من العلماء المبرزين في الفلسفة والرياضيات والفلك، وكتب المؤتمن رسالة الاستكمال في الرياضة، وأثارت بحوث هذين الأميرين العالمين إعجاب الدوائر العلمية في العصور الوسطى .
قال أبو عبدالرحمن: هذا نموذج يسير لرجال العلم والأدب لم يصنعهم أمراء الطوائف، بل كان العلم قائماً مزدهراً قلبهم، فمن هؤلاء العلماء من اعتزلهم ومقتهم كالإمام ابن حزم، ومنهم من فر من رمضاء نذل إلى نعيم نذل كابن زيدون، ومنهم المنتجع لطلب الرفد كابن حمديس,, وبقي لهم قصب السبق في التنافس على المجون,, وعلم الزراعة والفلاحة والصناعة كان لخدمة ترفهم ولهوهم، ولم يكن مدداً لقوة عسكرية موحدة ذات هدف، ولهذا نشط علم الفلاحة من أجل قصورهم، وبساتينهم,, قال الأستاذ عنان:وكان من علماء النبات والفلاحة البارعين في طليلطة ابن وافد الطبيب المشهور، وكان يشرف على حدائق بني ذي النون,, وأبو عبدالله ابن بصال العالم الزراعي الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وقد اشتهر ابن بصال بتجاربه العلمية الناجحة في توليد الغراس، ومكافحة الآفات الزراعية، وكتابه الفلاحة الذي انتهى إلينا وهو المشتق من دراساته وتجاربه العلمية يشهد ببراعته وتفوقه في هذا الميدان,, ولما سقطت طليطلة في أيدي النصارى غادر ابن بصال طليطلة إلى إشبيلية، وعهد إليه هنالك بالإشراف على بساتين بني عباد,, وكان من هؤلاء العلماء أيضاً أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج وقد عاش في إشبيلية، وألف كتاباً في الزراعة اسمه المقنع لم يصل إلينا، وأبو عبدالله محمد ابن مالك الطغنري وهو غرناطي عاش في أواخر القرن الحادي عشر، وتتلمذ على ابن بصال، ووضع كتاباً في الفلاحة سماهزهر البستان ونزهة الأذهان ,, وكان منهم بقرطبة ابن لونكو الذي عاش في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وكان أيضاً من تلاميذ تلك المدرسة الزراعية الزاهرة، وقد توفي في سنة 498ه1104 .
وأما عن الصناعات فقد كانت كذلك في عصر الطوائف رائجة زاهرة، وكانت تشمل كثيراً من الصناعات الهامة مثل صناعات الحديد والنحاس والزجاج والنسيج,, وكانت صناعة النسيج بالأخص من اهم وأشهر الصناعات أيام الطوائف، وكان بمدينة ألمرية وحدها خمسة آلاف منسج تنتج أفخم واجمل أنواع الأقمشة، وكانت السفن من مختلف ثغور المشرق، ومن الثغور الإيطالية تقصد إلى ألمرية وغيرها من الثغور الأندلسية محملة بالسلع من كل ضرب، ثم تعود بالسلع الأندلسية, وكانت دول الطوائف ذات الثغور مثل إشبيلية وألمرية وبلنسبة ودانية وسرقطة تجني من التجارة الخارجية أرباحاً طائلة .
قال أبو عبدالرحمن: كان هؤلاء الأراذل عمار قصور ومجالس لهو ولم يكونوا بناة أمة ودولة ومجد,, قال الأستاذ عنان عن قصور أبخلهم ابن ذي النون:وجمع المأمون ثروات طائلة، وابتنى بعاصمته قصوراً باذخة اشتهرت في ذلك العصر بروعتها وفخامتها، وكان منها مجلسه الشهير المسمى المكرم كان آية في الروعة والبهاء، وقد نقل إلينا ابن حيان عن ابن جابروقد كان من شهوده في حفلة من حفلات المأمون الباذخة بعض أوصافه,, قالوكنت ممن أذهلته فتنة ذلك المجلس، وأغرب ما قيد لحظي من بهي زخرفه الذي كاد يحبس عيني عن الترقي عنه إلى ما فوقه: إزاره الرائع الدائر بأسه حيث دار، وهو متخذ من رفيع المرمر الأبيض المسنون الزارية صفحاته بالعاج في صدق الملاسة، ونصاعة التلوين,, قد خرمت في جثمانه صور البهائم وأطيار وأشجار ذات ثمار، وقد تعلق كثير من تلك التماثيل المصورة بما فيها من أفنان أشجار وأشكال الثمر، وكل صورة منها منفردة عن صاحبتها، متميزة عن شكلها، تكاد تقيد البصر عن التعلى الى ما فوقها,, قد فصل هذا الإزار عما فوقه كتاب نقش عريض التقدير، ومخرم محفور، دائر بالمجلس الجليل من داخله، مرقوم كله بأشعار حسان قد تُخِّيرت في أماديج مخترعه المأمون,, وفوق هذا الكتاب الفاصل في هذا المجلس بحور منتظمة من الزجاج الملون الملبس بالذهب الإبريز، وقد أجريت فيه أشكال حيوان وأطيار، وصور أنعام.
وأشجار,, يذهل الألباب ويقيد الأبصار,, وأرض هذه البحار مدحوة من أوراق الذهب الإبريز، مصورة بأمثال تلك التصاوير من الحيوان والأشجار بأتقن تصوير، وأبدع تقدير .
ثم قال:ولهذه الدار بحيرتان قد نصت على أركانهما صور أسود مصنوعة من الذهب الإبريز بأحكم صياغة تتخيل لمتأملها: كالحة الوجوه، فاغرة الشدوق، ينساب من أفواهها نحو البحيرتين الماء,, وهوناً كرشيش القطر أو سحالة اللجين، وقد وضع في قعر كل بحيرة منها حوض رخام يسمى المذبح، محفور من رفيع المرمر، كبير الجرم، غريب الشكل، بديع النقش، قد أبرزت في جنباته صور حيوان وأطيار وأشجار,,, .
وذكر ابن بدرون: أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصراً تأنق في بنائه، وأنفق فيه مالاً كثيراً، وصنع فيه بحيرة، وبنى في وسطها قبة، وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبيرٍ أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل على القبة حواليها محيطاً بها، متصلاً بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر، والمأمون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيئ، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل .
ونقل إلينا ابن حيان أيضاً عن ابن جابر أوصاف ذلك الحفل الباهر الذي أقامه المأمون احتفالاً بختان حفيده يحيى الذي تولى الحكم فيما بعد باسم القادر,, وفيه من صور البذخ والإنفاق والسعة ما ينم عن الغني الطائل الذي حققه بنو ذو النون، واتسم به بلاطهم,, بيد ان المأمون كان بالرغم من ذلك ينسب إلى التقتير والشح، وكان قليل من الشعراء يقصدون إليه للمديحلقة نائله، وتفاهة طائلة على حد قول ابن بسام .
قال أبو عبدالرحمن: بحمد الله لم تبق الآن أثارة من هذا البذخ، بل ورث الفونسو كل ما أترفوا فيه عقاباً معجلاً، والله المستعان.