الكلمة هي الكلمة تخرج من الفم قتُنقل، أو تجول في الفكر فيرسمها القلم لتقرأ أو تنشر، فالقلم ترجمان الضمير ورسول الفكر.
بالأمس القريب كانت وسيلة الانتشار، وإذاعة القول في الناس اللسان، فالمتكلمون في الاسواق والمجالس والمنتديات والديوانيات وعلى المركاز هم الذين ينقلون اخبار المجتمع؛ من حكام، وأمراء، كما يذيعون اخبار المعارك والنوازل، فهم يحسنون القول فيُستمع لهم، ويتحدثون بمهارة فيُصغى إلى قولهم، إن أولئك يجدون مادة لقولهم في كل يوم، فالمجتمع هو موضوع حديثهم، بما يحويه من هموم كثيرة او تطلعات، فيوم يتحدث صاحب القول عن اضرار الجراد، ويعدد القرى التي اصاب زروعها بالنقص، ويوم يتحدث عن النقص في الثمرات والآفات التي أصابت البلدة الفلانية فربما ارتفعت الاسعار، وشق على الناس وجود الزاد، بل ربما يندر وجود القوت اليومي.
وفي مجلس آخر يتناول متحدث خطر مرض الجدري، ويعدد القرى التي هلك من أهلها الكثير، ولو انتَقَلتَ إلى سوق آخر لسمعت التوقعات عن المستقبل، وأن السنة المقبلة سنة خير، فالوسمي على الابواب، والامطار قادمة، فعلى الفلاح ان يتهيأ بالبذور، وينشط لزراعة أرضه, وهناك فئة من المتحدثين تخصصت في النقد، فالمتحدث في المجلس، أو الديوانية يتناول امير البلد، او قاضيها بالتجريح، وعرض العيوب، او الإشادة بالأمير، او القاضي، ويُروى عن الملك عبدالعزيز رحمه الله، انه استقبل وفداً من وفود البلدان التي تقصده، فلما استمع إلى حديث متحدثهم قال: إنني أعلم أنكم تتحدثون في أميركم أو قاضيكم، وهذا دأب الوفود, وهناك فئة اخرى من النقاد لا يرقى نقدها إلى الامير او القاضي، وإنما يهبط إلى الأشخاص، لأن عادة النقد متأصلة في المتحدث، والقدرة على القول من سماته، فهو يتصدر المجلس، ويقول، وبقية الجالسين يستمعون.
إن أولئك المتحدثين هم الذين يختصون بنطق الكلمة لما لديهم من مهارة في النطق، وسرد الخبر، ومناقشة القضية، أما الحاضرون فنصيبهم الاستماع، وتتكرر الايام ويتكرر المتحدث، وإذا حاول غيره الحديث قصر عن القول، فلم تمل إليه الأعناق، وتصغ الآذان, وكاتب اليوم هو متحدث الأمس، والفرق بين هذا وذاك ان متحدث الأمس يبقى حديثه في حدود بلدته، وبين مواطنيه، أما كاتب اليوم فتُنقل كلماته في ارجاء العالم، فالصحافة اليوم هي لسان المجتمع، وقد زاد من خطرها تطور الاتصال، وسرعة نقل الكلمة، والتطور الهائل في الطباعة، وتوافر المعلومات، وتهيئتها لدى الكاتب، إلى درجة غير معهودة من قبل، فكاتب اليوم الذي تُهيّأ له الوسائل، ويكتب عن دراية فيما يخدم المجتمعات، ويطور البشرية، من تهيئة الاعمال وتوفير القوت، وايجاد المقاعد الدراسية وإبعاد الأمية، تُحترم كلمته، ويُخشى قوله، لأنه يصدر عن حقائق، ويهدف الى الصواب وإذا كانت اجيال الأمس لا تأخذ بقول كل متكلم، فإن الجيل الحاضر لا يأخذ بقول الصحافة في كل شيء, إن صحافة اليوم صحافة إثارة على مستوى العالم، لأن الذي يقود الصحافة العالمية قد هبطت لديه القيم، وهانت عنده الأخلاق، فالصحيفة الناجحة - بالمقياس العالمي للصحافة - هي التي توزع أكثر، بغض النظر عن الطرق التي انتهجتها في سبيل رفع أعدادها الموزعة، ونحن في عالمنا الاسلامي والعربي لابد ان نراعي ديننا، وقيمنا، وأخلاقنا، ولذلك فلن نلحق الآخرين في هذا المضمار، لأن قيمنا تحد من سلك الطرق التي تسلكها الصحف الاخرى، فمسؤولية الكاتب تجاه دينه ووطنه مسؤولية كبيرة، فمن تجرد من القيود الدينية والاجتماعية والأخلاقية، قد يشتهر، وقد يكون مطلباً للصحافة، ولكن تلك الانفلاتات تخبو سريعا مثل لمعانها سريعاً.
لقد سعى ملاك الصحف الى الربح المادي، فاندفعوا إلى نشر ما يرفع الاعداد الموزعة فهبطت الاخلاق، وانحدرت المجتمعات الى الدونية، فعالم اليوم يعيش بدون هدف، فإذا كان المجتمع في الماضي يرفض من عُرف بالكلمة غير الصادقة فإن مجتمع اليوم يحتضن الصالح والطالح، أعان الله من يصغي إلى كل كلمة.
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل