يواجه ميدان الخدمة المدنية والتنمية الادارية في المملكة تحدياً متعاظماً في صورته الراهنة بحكم التطور الكمي المتلاحق والمتسارع الذي شهدته اللادارة الوطنية في شتى المجالات عبر عقود التأسيس والبناء لهذا الوطن الكريم, وهذا التحدي نابع في صلبه من الرغبة الكريمة لدى القيادات المسئولة في قيام ادارة امثل لمتطلبات المرحلة الادارية القادمة، وهي مرحلة تتسم حتماً وبلا حدود بمنهجية التفكير الابداعي القادر على طرح تصورات عملية جديدة فيها خدمة فاعلة لمنظومة الادارة عملاً وانتاجاً,, وحل للمشكلات المعقدة التي تعترض شرايين الحياة الادارية، كما انه نابع في ذات الوقت من الحاجة الوطنية الماسة للانفتاح الاداري المدروس الذي يساعدنا في تكوين العقل والوعي والابداع, ان قنبلة الانترنت - على سبيل المثال - يجب ان يتعامل معها الانسان الاداري على انها شحنة موجبة يفيد منها في اوسع نطاق.
ومن هنا فان من الضرورة القصوى بمكان ان تلتقي الخدمة المدنية بالتنمية الادارية في عملية الاهتمام التام بالكائن الاداري وتربيته على كسر الروتين والجمود والخروج من ربقة الترهات الادارية المكرورة، وايقاد مصباح العقل الاداري واضرام نيران الابداع فيه، ويتكاتف على هذا الاهتمام اجهزة الدولة عموماً وفي مقدمتها اجهزة التنمية الادارية, ان الموظفين في جملتهم هم صناع حياة الجد والعمل,, فهم من يسن الانظمة وهم ايضاً من ينفذها,, وهم من يراقب الخدمة وهم ايضاً من يقدمها، فمن الظلم والبخس والحالة هذه ان نغرقهم بالتوافه الروتينية والمألوفات الباعثة على السأم والضجر والخمول ونعطل ملكاتهم المتقدة في ميدان الانتاج.
نستدل من هذا الطرح على ان الادارة الوطنية بكفتيها الخدمة المدنية والتنمية الادارية لابد من ان تتحلى ببردة جديدة قوامها احداث التغيير الايجابي الفاعل في مجمل عناصر العملية الادارية من تخطيط وتنظيم وسلوك وانظمة ورقابة وتقويم وتصحيح,, وفق خطة وطنية متكاملة ترصد المشكلات وتحدد الاهداف والتوجهات وتضع البرامج والمشروعات الضامنة لبيئة ادارية وطنية منتجة ونزيهة وفاعلة, ان علينا ان ندرك بان الخدمة المدنية لم تعد مجرد (توظيف واجور ورقابة وسن انظمة) كما ان التنمية الادارية هي الاخرى لم تعد تقتصر على (برامج التدريب الاداري للقوى البشرية واعداد الهياكل التنظيمية وتبسيط اجراءات العمل وتوصيف الوظائف وتحديث اللوائح والانظمة,, بل هما قبل وفوق هذا كله تعنيان سلامة التدبير لمجمل الموارد والامكانات واحداث التأثير الفاعل والمتواصل في القدرات والطاقات العاملة بما يكفل اظهار وابراز القيمة الحضارية والكينونة الاخلاقية للعمل الاداري بمجمله, امر آخر جد مهم لحركة التصحيح الاداري هو ان نعي وندرك حقيقة ان التطور العلمي والتقني الرهيب الذي يجتاح عالم الادارة الان في مختلف المجالات بحاجة ماسة الى ملاحقة مستمرة فنحن الان لانستطيع ان ندير ماكان يدار حتى قبل عقد من الزمان، العلوم تتضاعف في كل سنتين او خمس سنوات عما كانت عليه، فلابد ان تكون العملية الادارية واساليب اداء الخدمة متطورة ومتواكبة مع المستجدات والمتغيرات المتلاحقة,, وهذه في الحقيقة عملية شاقة لكنها ضرورة لاخيار لنا فيها ولامفر منها، فالادارة العصرية تمثل منظومة اجتماعية متكاملة يتأثر بها ويؤثر فيها الفرد والمجتمع على حد سواء، ولابد والحالة هذه من ان تكون ادارتنا الوطنية في حالة تأهب مستمر لكل ما يخدم تحسين الخدمة، وتفعيل الاداء، والاقتدار على ترجمة خطط وبرامج التنمية الوطنية الى واقع ملموس، وتوجيه الجهود والموارد نحو تحقيق الاهداف المطلوبة بكفاءة عالية وبأقل التكاليف.
من هذا العرض التحليلي يظهر بوضوح اهمية وضرورة التلاحم والتكامل بين كفتي ميزان الادارة الوطنية (الخدمة المدنية والتنمية الادارية) على ان الامر يتطلب بادىء ذي بدء ان يتفق الطرفان معاً على تحديد (اهداف عامة مشتركة) لهما,, بحيث تمثل هذه الاهداف مركز القلب للادارة الوطنية اخذاً في الاعتبار الدور الذي يكفله النظام لكلا الطرفين في مجمل العملية الادارية وبالذات في مجال الارتقاء بمستوى الاداء كعنصر اشتقاق رئيسي لمفهوم الجدارة الذي هو بحق شريان الادارة، وفي نظرنا فان ابزر الاهداف العامة المشتركة التي يمكن تحديدها للطرفين كبرنامج عمل لتصحيح وتفعيل الادارة ما يلي:
1- ترشيد الانفاق الحكومي بصوره الادارية المختلفة.
2- تطوير التشكيلات والنظم الادارية القائمة في الاجهزة الحكومية وتحسين اساليب العمل فيها.
3- تنمية وحسن استغلال القوى العاملة في القطاع الحكومي.
4- العناية الفائقة والمستمرة بوسائل التقنية الحديثة في الادارة بما يكفل توفير الجهد والوقت والكلفة والقوى العاملة في القطاع الحكومي.
5- المراجعة الدورية المشتركة لقواعد الاختيار والتعيين في الوظائف الحكومية.
6- التعاون المشترك في تحديد افضل الطرق لتنفيذ الانظمة واللوائح الوظيفية ومراجعتها واقتراح تحديثها.
7- وضع المعايير العامة التي تكفل تأسيس منهج واضح للسلطات والصلاحيات الادارية في القطاع الحكومي.
8- اتخاذ التدابير الكفيلة بتأسيس منهج اخلاقي عام للعمل الاداري " adminstrative code of ethics"يتم في ضوئه الزام كل جهاز حكومي بإعداد وثيقة اخلاقية لنشاطاتها الادارية.
9- التعاول المشترك في وضع معايير معينة وتوصيفات محددة للوظائف القيادية تساعد عملاً على وضع الانسان المناسب في العمل المناسب,, وتحد من احتدام الاعتبارات الذاتية عند التعيين.
10 اعداد عمل اعلامي مشترك ومستمر لرفع التوعية الادارية لدى موظف الخدمة العامة,, والحث على احترام قواعد الوظيفة ومتطلباتها وتبيان محاسن الاخلاص والتفاني في العمل وانه اساس التطوير والتدرج.
11- الاهتمام المشترك بتنظيم السجلات الوظيفية العامة بما يكفل تكامل المعلومات المطلوبة عن الموظفين - وبالذات موظفي الادارة العليا - والاستفادة الموضوعية منها في عمليات الاختيار والتعيين في وظائف الدولة المختلفة.
هذه نظرة تحليلية لواقع او اتجاه مأمول للخدمة المدنية والتنمية الادارية في المملكة، وفي العرض التحليلي القادم وما سيتلوه من عروض سنتطرق الى بعض التفصيلات المتعلقة بالادارة الوطنية.
|