في السنوات الأخيرة يشعر المتابع للحركة الثقافية في الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي بأن هناك استمراراً في داخل تلك الدول للتدفق النوعي والابداعي لروافد ثقافتنا العربية الاصيلة وان صياغة جديدة لخطابنا الثقافي تجري الآن بما يتناسب وروح العصر,, وان الاجتماعات الداعمة لهذه المجالات مستمرة في اوقاتها المقررة لها سلفا: مثل مؤتمرات وزراء الثقافة العرب بين الدول العربية ومؤتمرات المسؤولين عن الثقافة في دول الخليج العربية، مما يهيئ لها اقامة المزيد من المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية التي تثري مثل هذه المنجزات - والذي يجسد العمل العربي المشترك بين اقطار الوطن كافة في احلى صورة ويجعلنا نتذكر ايام العرب الادبية والفكرية - مثل سوق عكاظ - والمربد والمشقر ، وغيرها - وتذكرت انني سبق ان طرحت بعض الافكار حول مستقبل مثل هذه الاهتمامات الثقافية, خاصة وعاصمتنا الغالية سوف تتوج عاصمة للثقافة العربية بعد شهور.
وكلنا نعرف ان اقامة المهرجانات الفكرية والثقافية في بعض العواصم والمدن العربية ساهمت الى حد معين في تنشيط حركة الادب والثقافة في الوطن العربي، وكان لفعالياتها الاثر الملموس في بلورة افكار ايجابية حفزت الادباء والمثقفين العرب إلى الانتاج الجيد واثراء المكتبة العربية بكتب ومؤلفات عديدة تعتبر حتى الان نواة طيبة لرقي ونهضة المجتمعات العربية المعاصرة واجيالها القادمة.
من ناحية اخرى اتاحت هذه المهرجانات فرصا كبيرة لالتقاء عدد وفير من الادباء والمثقفين مع بعضهم البعض، وفتح نوافذ البحث والحوار حول هموم الامة العربية وانجح السبل للنهوض بها على مختلف المستويات الحياتية وفي مقدمتها المستوى الادبي والثقافي.
ولعله لا يخفى على القارئ ان فكرة اقامة هذه المهرجانات الادبية والثقافية ليست جديدة في التاريخ العربي فقد كانت سوق عكاظ اول وأكبر تجمع ادبي وثقافي عرفه العرب في الجاهلية قبل ان تعرف مثله اي امة من الامم كانت سوق عكاظ موسما كبيرا يلتقي فيه الشعراء والادباء والمفكرون والفرسان ووجوه القبائل، حيث يتبارى الشعراء في انشاء قصائدهم ومعلقاتهم ويجدون من الحضور والناقدين والمحكمين من يهتم بانتاجهم ويجيزهم على ابداعاتهم ويحتفي بهم ربما اكثر مما يحظى به شعراء وأدباء هذه الايام.
ولقد اثمرت سوق عكاظ وانجبت كثيرا من الشعراء والقصائد مما لا تزال تزخر بهم وبها كتب الادب العربي حتى اليوم، وهذا دليل على علو كعب هذه الامة في مجالات الادب والثقافة وذائقتها العالية في ميادين الفن والابداع!
والحقيقة انه ليس هناك ادب من شعر ونثر لا يتخلله الفكر والثقافة فالقصائد والمعلقات والخطب التي كانت تقال في سوق عكاظ وتشيع وتذيع بين المجتمعات القبلية في تلك الحقبة كانت مفعمة بالافكار والحكم ودافعا قويا لتهذيب الاخلاق وتعميق التقاليد العربية الاصيلة التي اقرها الاسلام فيما بعد كالكرم، ونبذ الحروب المدمرة، والمروءة، والحفاظ على الشرف والحض على النجدة وحسن الجوار وغير ذلك من الموروثات والمزايا التي تتشكل منها طبيعة الانسان العربي عبر الحقب الزمنية والاجيال.
ومرت الايام,, وجاء الاسلام بتعاليمه العظيمة التي انارت الانسان في الجزيرة العربية طريق الحق والهدى، إلا ان الاهتمام بالشعر والادب ظل قويا وطاله شيء كثير من التهذيب وعدم المبالغة ووجه الادباء والشعراء جهودهم في خدمة الاسلام وفكره العظيم.
وما تجدر الاشارة إليه، ان الجزيرة العربية ظلت في العصرين الاموي والعباسي - كما كانت دائما - مشعل الادب والشعر والثقافة والعلوم الدينية بشكل خاص.
وعندما اقام الملك عبدالعزيز اول وحدة عربية حقيقية في بداية هذا القرن - على ارض الجزيرة العربية، اهتم اهتماما شديدا بتنمية الادب والثقافة حيث اصبح يقام في المملكة مهرجان سنوي ادبي ثقافي تحت رعايته وكان ادباء وشعراء ومثقفو البلاد العربية يتوافدون إلى مهرجان الجزيرة العربية ويحظون بالتكريم والجوائز.
هذه مجرد اشارات لايمكن تجاهلها في مسار الحديث عن المهرجانات الادبية والثقافية التي تقام الآن سنويا في المملكة - وفي بعض العواصم والمدن العربية كمهرجان اصيلة في المغرب - اقال الله عثرته - ومهرجان المربد في العراق ومهرجان جرش في الأردن ومهرجان الجنادرية في الرياض ومهرجان القرين في الكويت ومهرجانات القاهرة الفكرية! التي تقام على هامش معرض الكتاب وغيره! فهناك الشيء الكثير الذي يمكننا قوله.
فالواقع ان هذه المهرجانات الادبية والثقافية علاوة على انها كسرت حواجز العزلة بين الادباء والمثقفين العرب ودعمت خيوط وقنوات التواصل بينهم وافرزت الكثير من الدراسات والنتاج والافكار الجيدة الهادفة لنهوض ورفعة الامة العربية إلا انه يجب الاشارة بتجرد وجرأة ومن قبيل مصارحة الذات العربية، ان بعضها جرى توظيفها بغير الغايات التي انشئت من اجلها مما كان له انعكاسات وانحرافات خطيرة علىالفكر العربي والادب والثقافة العربية وليس هنا مجال الحديث عن ذلك!
إن نظرة واقعية لمسار هذه المهرجانات يدعو الى تصحيح اساليب واتجاهات واهداف العمل خلال اقامتها وترشيد فعالياتها بما يخدم الادب والثقافة والفكر ويأخذ بيد المجتمعات العربية الى الارقى والافضل ولاسيما نحن في عصر مليء بالتحديات والثقافات الدخيلة الاكثر خطراً على هذه الامة من جميع وسائل القتل والدمار!!
جميل جداً ان تقام هذه المهرجانات بهدف تلاقي وتعارف الادباء والمثقفين والمفكرين وبهدف تلاقح الافكار وتمازج الثقافات في المجتمعات العربية ومن ثم حفز هؤلاء على الانتاج الراقي والابداع في فنون الادب والفكر والثقافة مما يصب في بوتقة النهضة العربية بشكل عام ومشاريع الامة النهضوية.
ولكن هل حققت جميع هذه المهرجانات اهدافها الكبيرة والنبيلة كما يجب وكما ينبغي؟!,, هذا هو السؤال,,؟
لقد وجه الادباء والمثقفون والمفكرون العرب حملة من الانتقادات لهذه المهرجانات منها على سبيل المثال لا الحصر التقليل من الاهتمام بالجوانب الادبية والثقافية والفكرية وطغيان الغناء واللهو والرقص والاتجاهات السياحية المترفة على كل شيء - كما يحدث في جرش-!!
إن الهدف الاساسي من هذه المهرجانات هو خدمة الادب والثقافة والفكر قبل المتعة واللهو وقبل حصر الفعاليات الثقافية والفكرية في نطاق ضيق ومن ثم تسخير طاقات بعض هذه المهرجانات للدعاية والاعلان.
ان الذين انتقدوا مسار هذه المهرجانات في الآونة الاخيرة وتنبهوا إلى مايتخللها من انحرافات شديدة وخطرة دعوا بشكل صريح إلى التفريق بين ما هو هازل وما هو جاد فهذه المهرجانات هدفها ادبي وفكري وثقافي وحضاري ايجابي وليس هدفها اللهو والسياحة والاستجمام على حساب الغير!!
المفروض ان يستغل جميع المشاركين في هذه المهرجانات جل وقتهم وجهدهم في تحقيق منجزات كبيرة على صعيد الادب والفكر والثقافة بما في ذلك البحوث والدراسات والندوات واللقاءات وتسهيل نقلها إلى الجمهور عبر وسائل الاعلام المختلفة.
لكن ما حدث ويحدث خلال بعض المهرجانات فهو غير كاف وغير مرضٍ على الاطلاق فهذه المهرجانات ادبية وثقافية وفكرية وليست مهرجانات لتجميع الاصدقاء وتكريس الشللية,,!!
ان أخشى ما يخشاه الاديب والمثقف العربي هو ان يستمر الانحدار بهذه المهرجانات إلى الدرجة التي تصرف الجميع في النهاية عن حضورها وربما انصرف الضيوف من رجال الفكر عن متابعتها وتقييم منجزاتها.
إن الكثير من فعاليات هذه المهرجانات تدنى إلى درجة كبيرة وخصوصا في الجوانب البحثية والثقافية بالذات انه أمر محزن حقا يجب معالجته بتوسيع دائرة الاستشارة فيه - بعيدا عن المعارف والاصحاب!! الذين يزايدون على ثقافة الامة وعلى خطابها الثقافي والسياسي ويدّعون في رعونة انهم قد احاطوا به - كل ذلك من منطلق مصالحهم الشخصية والبحث عن اي دور لهم!!.
ان المأمول من هذه المهرجانات ان تتعامل مع النتاجات والافكار السامية الناهضة وتقفز على الاحداث وترتفع بأهدافها عن كل ما هو سطحي وهزيل ومؤقت ودعائي ولن يتم لها ذلك او تتحقق لها ديمومة الاستمرار إلا بتكوين مصادر تموينة مالية لهذه المهرجانات وذلك بتحويلها إلى مؤسسات ربحية حتى يكتب لها النجاح والاستمرار.
لابد من التركيز على التوجيهات المستقبلية لهذه المهرجانات التي من ابرز اهدافها النهوض بالامة وتوعية الشعوب العربية التي تواجه اخطر التحديات في القرن الحالي وفي القرن المقبل!!.
|