بيني وبين صاحب (أنكر الأصوات) ثأر قديم لم يحسم بعد,, رغم أن السيارة قد سحبت البساط من تحت حوافره,, ليسقط في مجاهل البطالة, مرشَّحا لمتحف النسيان!!
***
ولهذا الثأر حكاية طريفة يعود تاريخها الى ضحى طفولتي في منطقة عسير.
فقد كان جدّي (لسيدتي الوالدة)، طيب الله ثراهما يحرص على اصطحابي معه الى (سوق الثلاثاء) وسط مدينة ابها ، كلما شد اليه الرحال، فنمتطي ظهر حماره ذهابا من قريتنا المستلقية على ضفاف وادي ابها الكبير، وعودا منها، وكانت الرحلة تستغرق نحو الساعة، وكنت اشعر بخدر لذيذ تتقاسمه الغبطة والخيلاء ودفء الراحة وانا المس ذراع جدي المحيطة بجسدي النحيل، بينما تتحكم يده الاخرى بحركة الحمار، وكنت اتمنى الا تنتهي الرحلة كي انعم بخصوصية ذلك الدفء النفسي,, ولاتابع عن بعد نظرات العابرين والعابرات من سالكي الطريق نفسه,, فيها شيء من فضول,, وشيء من عجب، وهم يشاهدون رجلا مسنا يحتضن طفلا صغيرا على ظهر حمار!
***
وذات ثلاثاء ,, كنت وجدّي طيب الله ثراه نمتطي صهوة حمارنا الابيض، ونعبر ساحة السوق الكبير في طريق الاياب الى قريتنا,, وكانت نفسي يومئذ مشحونة بعفوية الفرح لوصول (بقشة) من سيدي الوالد يرحمه الله تحوي ملابس عيد، وشيئا من الحلوى,, وكنت احتضن الهدية بشوق,, واتمنى لو يختصر الزمن رحلته ,, لنبلغ العيد، واشبع غليلي بالجديد من الملابس والحلوى!.
* *
وفجأة، يقبل رجل من اقصى السوق ينادي بأعلى صوته باسم جدّي,, فنتوقف عن السير، ويتمنى الرجل على جدي ان يترجل,, ليحدثه عن امر بدا انه طارىء وهام، ويستجيب له جدي، ويأمرني بالبقاء على ظهر الحمار لحظات حتى يعود,, وابقى وحدي وانا لا اكاد اعي ما حولي لتفردي لاول مرة في حياتي، ب (مركز القيادة والسيطرة) على حمار جدّي, ويسير بي الحمار بضع خطوات,, فلا اردعه ,, او اوقفه,, او اعترض، وتسري في جسدي نشوة عجيبة ,, فيها شيء من خوف,, وشيء من سطوة, وشعور خفي ب (لذة) التفوق على خوفي من البقاء وحيدا على ظهر الحمار العنيد!.
***
ويمضي الحيوان البليد باتجاه القرية,, فلا يزيدني ذلك الا نشوة,, بل اصرارا على المزيد من السير! نسيت في غمرة النشوة,, جدّي العزيز الذي وقف مع من جاء يناديه عن بعد، ونسيت,, ان لذلك الحمار سطوة وعصيانا لا يذلهما سوى عصا جدي,, وهدير صوته كلما انكر منه شيئا!
***
لم اعد اتذكر في تلك اللحظة سوى انني اعيش لحظات من متعة (التحكم عن قرب) في مسار الحمار,, وانا الذي لم امتطه يوما وحدي,, ولا كنت لاجرؤ على ذلك! وزادني عنادا ونشوة في آن لغط سالكي الدرب، والنسوة منهم خاصة وهم يتساءلون فيما يشبه الهمس الملون بابتسامات دافئة عن هُوية ذلك الطفل النحيل بدنا والقصير قامة الذي يمتطي حمارا ضخم الجثة,, نشط الحركة!
***
وتستمر الرحلة ,, حتى تبلغ موقعا لا يبعد عن بيت جدي سوى اقل من خمسمائة متر,, وكان منحدرا جبليا وعرا مرصّعا بصخور وحفر وشجيرات الشوك البري، وتمر بجوارنا حمارة (مراهقة) تحدث صوتا وحركة,, فتفتن حماري العنيد,, وتستفز (فحولته) فيلحق بها عدوا غير عابىء بي ولا بقذائف صوتي وسوطي، وفجأة تتعثّر خطاه، ويختل توازنه مصطدما بصخرة ملساء,, فأهوي من على ظهره الى الارض المنحدرة صوب الوادي,, ويستأنف هو اللحاق بأنثاه الماكرة، ويتدحرج جسدي النحيل صوب الوادي, فلا يردعني من هوّته سوى شجرة شوك برّي,, ويهرع احد رعاة الغنم في الارض المجاورة الى نجدتي,, فيحملني الى بيت جدي, وكانت حصيلة تمردي على ارادة جدي,, وعصيان الحمار (المتصابي) كسرا مضاعفا في اليد اليسرى,, وخدوشا في الوجه والساقين!!
***
وما برح (ملف التحقيق) مفتوحا,, رغم السنين، كيلا يسجّل الحدث ضد مجهول!المعنى
|