جناية الغرب على التعددية في المحيط الإسلامي د , محمد عمارة |
بدلا من ان يتعلم الغرب من الشرق الإسلامي فضيلة التعددية او حتى يترك له فضيلته، اذا به يجعل من احتكاكه بالشرق وبالا عليها، وجناية في حقها!,.
فهو في الحقبة الصليبية (489-690ه 1096-1291م)-عندما كان في طور انحطاطه الحضاري,, وطغيان فروسية اقطاعه الغاشمة - حاول استدراج قطاعات من الاقليات النصرانية الى خيانات عسكرية للجيوش الاسلامية، فجلب على هذه الاقليات محنا شهيرة- مثل الذي حدث في الاسكندرية ودمشق- ابان الصراع مع الصليبيين والتتار- وهي محاولات احدثت توترات انتهت بانتهاء هذه المواجهات المسلحة,.
لكن الغرب، في غزوته الحديثة لعالم الإسلام، قد جاء - مع المدفع، والنهب الاقتصادي، والاحتكاك العسكري- بنموذجه الفكري، الذي تبلور وازدهر في عصر النهضة والاحياء,, وهو قد عزم، هذه المرة، على احتلال العقل العربي والمسلم، لتتأبد تبعيتنا له حتى بعد زوال احتلال الجيوش,, وكانت الاقليات - اليهودية، والنصرانية- هي الثغرات التي بدأ منها جهود الغزو الفكري والتبعية الحضارية والتغريب,, الامر الذي حول به نعمة التعددية، التي تميز بها الشرق، ونعمت بها اقلياته، الى نقمة على هذا الشرق، بما في ذلك هذه الاقليات!,.
لقد جاء الغزو الفكري طالبا من امتنا التخلي عن تميزها الحضاري، وتبني النموذج الغربي في التقدم والنهضة والتحديث، وتقليد المذهب الوضعي الغربي في الحكم والادارة والتشريع,, اي طالبا منا التخلي عن التعددية الحضارية، والايمان بواحدية الحضارة بدلا من تعدديتها,, ولقد استوت في ذلك مذاهبه الشمولية مع مذاهب الليبراليين !
واذا كان بونابرت (1769-1821م) طليعة هذه الغزوة، قد سعى - منذ حملته على مصر (1213ه 1798م)- الى توطين (العمالة الفكرية والحضارية) في محاضن الاقليات، تمهيدا لقيام هذه العمالة الفكرية والحضارية بمهام العمالة السياسية للمشروع الغربي في الشرق الاسلامي,, فإن جهود حملته ، وما تلاها من حملات، قد حققت من النجاحات في هذا الميدان الشيء الكثير!.
لقد جاء بونابرت على رأس جيش الشرق الفرنسي وفي جعبته مشروع تجنيد عشرين الف رجل من اقليات الولايات العثمانية التي يفتحها (1) ,, ؟!
ولقد القى الى اليهود خيوط الشراكة في المشروع الاستعماري الغربي، خيانة للشرق الاسلامي، منذ ندائه الذي وجهه اليهم في 4 ابريل 1799م - اثناء حصاره لمدينة عكا ,, وهو النداء الذي خاطبهم فيه، ودعاهم الى التحالف مع فرنسا لاقامة امبراطوريته الشرقية، مقابل اقامة قاعدة لهم، تمثل امتدادا لهذه الشراكة في فلسطين، قلب عالم الإسلام,, وجاء في هذا النداء :ياورثة فلسطين الشرعيين!,, إن الامة العظيمة - (فرنسا)- تناديكم الآن، لا للعمل على اعادة احتلال وطنكم فحسب، وليس بغية استرجاع ما فقد منكم، بل لاجل ضمان ومؤازرة هذه الامة، لتحفظوها مصونة من جميع الطامعين بكم، كيما تصبحوا اسياد بلادكم الحقيقيين ! (2)
ومنذ ذلك التاريخ بدأت خيوط الشراكة الغربية مع الاقلية اليهودية ضد استقلال وطن العروبة وعالم الاسلام، مع تغير الدولة الغربية القائدة في هذه الشراكة وفق متغيرات موازين القوى,, فرنسا اولا,, وانجلترا ثانيا, ثم الولايات المتحدة الامريكية,,!
ولقد اثمرت هذه الشراكة قاعدة للحضارة الغربية في قلب عالم الاسلام، جعلت وتجعل من اوليات مهامها: الحيلولة دون البعث الاسلامي المتميز والاحياء القومي الخاص، اللذين يتخذان لامتنا مرجعية في النهوض والتقدم غير مرجعية الغرب والغربيين!,.
كذلك القى بونابرت خيوط العمالة الى نفر من اراذل النصارى في مصر - من الاقباط والطوائف الاخرى - فكونوا فيلقا قبطيا حارب الشعب المصري مع قوات الاحتلال، وقاده المعلم يعقوب حنا (1158-1216 ه 1745-1801م)- الذي سماه الجبرتي يعقوب اللعين !,, وفيلقا من النصارى الاروام، قاده برطلمين يني الرومي - الذي اشتهر لدى العامة ب فرط الرمان !-,.
وكما يقول الجبرتي (1167- 1237ه 1754-1822م) -مؤرخ العصر- فإن فيلق المعلم يعقوب قد ضم من شباب القبط بالصعيد نحو الالفين (3),, وشارك هذا الفيلق مع الجيش الفرنسي- الذي قاده ديزيه - في فتح صعيد مصر !,, وتدرج يعقوب في مراتب الجيش الفرنسي، فمنحه كليبر رتبة كولونيل ، وانعم عليه منو برتبة جنرال في مارس 1801م.
وغير مشاركة هذه القطاعات من ابناء الاقليات في العمل العسكري- فتحا,, وقمعا لثورات الشعب المصري ضد الحملة الفرنسية -,, فإن بونابرت عندما فكر في تكوين ديوان للمشورة، جعل لهذه الاقليات نصف عضوية الديوان الدائم والخاص؟!,, خمسة من علماء الازهر، واثنان من التجار المسلمين,, وسبعة من الاقليات النصرانية- ومع الاربعة عشر عضوا عدد من الفرنسيين!,, (4)
أما الجهاز الإداري والمالي- اي الحكومة الحقيقية- فلقد اختص الفرنسيون بها هذه الشريحة من ابناء الاقلية النصرانية، فكانوا جهاز القهر وادوات القمع لجمهور الشعب,, فالمعلم يعقوب، قد عهد اليه الجنرال كليبر- كما يقول الجبرتي ,,بأن يفعل في المسلمين مايشاء (5) ؟!,, فرأس ديوان الفِرَد اي جمع الغرامات والجبايات من المواطنين،ومارس فيه إذلال الناس، حتى لقد احتجز كبار العلماء فبال بعضهم في ملابسه اثناء الحجز؟!,, وجرجس الجوهري ، عينه بونابرت مسئولا عاما عن تحصيل الضرائب العقارية، وعهد اليه تنظيم الموارد المالية للحكومة!,, وكذلك كان الحال مع قادة هذه الشريحة العميلة من ابناء الاقلية النصرانية- انطون ابو طاقية,,ويوسف الحموي,, وفلتاؤس,, وملطي,, وشكر الله,, وعبد الله,, وبرطلمين يني الروم- ,, كما عين الفرنسيون منهم جهازا للتجسس على المسلمين!,.
واذا شئنا عبارة توجز هذا الذي صنعته الحملة الفرنسية بالامة بواسطة هذه الاقلية النصرانية، فيكفي ان نقرأ عبارة الجبرتي التي يقول فيها: وتطاولت النصارى، من القبط والنصارى الشوام، على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم اغراضهم،واظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصالح مكانا؟! وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وايام الموحدين (6) ؟! نعم,, لقد كان انقلابا على ملة المسلمين وايام الموحدين اراد به الفرنسيون استخدام الاقليات لاخضاع مصر لحضارتهم، وتغيير هويتها من الاساس.
وعلى يد هؤلاء العملاء، بدأ اول حديث في الشرق عن الالتحاق بالغرب حضاريا، وعن استقلال مصر عن هويتها ومرجعيتها الاسلامية,, استقلالها عن تاريخها وتراثها الاسلامي، و استقلالها عن المحيط العربي والإسلامي,, وبتعبير معاصر، بدأ الحديث عن الحداثة التي تقيم قطيعة معرفية مع الماضي ومع المحيط!,, مع الخضوع للنفوذ الغربي، والالحاق بالنموذج الاوربي في التقدم والتحديث!,, اي الغاء التعددية في المرجعية والحضارية، واستبدال المرجعية الغربية بمرجعية الاسلام,.
ولقد اوصى المعلم يعقوب- بعد هزيمة الحملة الفرنسية، وخروجه ونفر من زملاء الخيانة في ركاب جيشها المطرود- اوصى انجلترا- بعد فشل المشروع الفرنسي- بالسعي لاستقلال مصر عن محيطها الاسلامي -العثماني يومئذ -، واخضاعها للنفوذ الانجليزي,, فقال:توشك الامبراطورية العثمانية على الانهيار,, ولذا فيهمّ الانجليز، قبل ان تقع الواقعة، ان يلتمسوا لانفسهم من الوسائل المؤكدة مايكفل لهم الافادة من ذلك الحدث عند وقوعه، فيحققوا مصالحهم السياسية, واذا كان من المستحيل عليهم ان يستعمروا مصر -كما استحال ذلك من قبل على فرنسا- فيكفي ان تخضع مصر المستقلة لنفوذ بريطانيا صاحبة التفوق في البحار المحيطة بها,, ان بريطانيا لها من سيادتها البحرية ما يجعلها تستاثر بتجارة مصر الخارجية،ويضمن لها بالتالي ان يكون لها ماتريد من نفوذ فيها,, ان مصر المستقلة لن تكون الا موالية لبريطانيا, ومن ثم فعلى بريطانيا ان تعمل على استقلال مصر,,وهذا الاستقلال لن يكون نتيجة وعي الامة، ولكنه سيكون نتيجة تغيير جبري تفرضه القوة القاهرة على قوم مسالمين جهلاء!,.
وللدفاع عن هذا الاستقلال,, فإن المصريين يمكنهم ان يعتمدوا على قوات اجنبية تعمل لحسابهم يتراوح عددها بين 12,000 و 15,000جندي يكفون تماما لصد التحرك عند الصحراء ولسحق المماليك داخل مصر,, ان اي حكومة في العالم افضل من الاستبداد التركي,,, ؟! (7).
فالدعوة هي الى :استقلال مصر عن الدائرة الاسلامية، بواسطة القوة الجبرية القاهرة التي يفرضها الانجليز على المصريين الجهلاء,, وهو استقلال تحرسه حراب قوة اجنبية، يدفع المصريون الجهلاء نفقاتها,, وذلك في مقابل استئثار انجلترا بتجارة مصر الخارجية ، وضمان ماتريد من نفوذ فيها ,, فكل ذلك افضل من الاستبداد التركي ؟!,.
تلك هي الوصية ، التي وان بدا ان الانجليز لم يعيروها اهتماما، عندما اودعوها ارشيف محفوظات وزارة خارجيتهم,, الا انها تمثل المخطط الذي تم تنفيذه,, فرض النفوذ السياسي والفكري الغربي على مصر,, وبمقدار تعاظمه كان مقدار عزل مصر عن الدائرة الاسلامية -العثمانية يومئذ - الى ان تم الالحاق الكامل لها بالغرب بعد الاحتلال الانجليزي,, وهو ذات المخطط الذي اخرجت فصوله في اغلب اقاليم وطن العروبة وعالم الإسلام,.
اما رفقاء المعلم يعقوب - الذين نزلوا الى ميناء مرسيليا -بعد موته على ظهر السفينة في عرض البحر- فلقد استمر رهانهم على فرنسا,, فإذا كانت قد فشلت في اخذ مصر مستعمرة ، فإن امامها ان تعمل،بواسطة الاقلية التي ادعوا تمثيلهم لها، على استقلال مصر عن محيطها الاسلامي، واخضاعها للنفوذ الفرنسي ,, وفي مذكرة مرفوعة الى بونابرت - القنصل الاول للجمهورية الفرنسية من الوفد المصري -وموقعة باسم وكيله: نمر افندي - ومؤرخة في 23 سبتمبر سنة 1801م,, يقولون لبونابرت: إنك اذا عملت في معاهدات الصلح على ان تكون مصر مستقلة،فسوف تعوض خسارتك فيها مائة مرة ؟!
ترى ماهو هذا الاستقلال الذي يفوق في حسابات مغانم المحتل مكاسب احتلاله مائة مرة؟؟!,.
وهم يعرضون خدماتهم في اخضاع مصر فكريا وتشريعيا وحضاريا لفرنسا، فيقولون لبونابرت : إن الوفد المصري، الذي فوضه المصريون الباقون على ولائهم لك، سيشرع لمصر ماترضاه لها من نظم عندما يعود اليها من فرنسا ؟! (8)
وفي مذكرة اخرى رفعها هؤلاء العملاء الىوزير الخارجية الفرنسي تاليران (1754-1838م) امتدت بهم آفاق العمالة لتمد آفاق الاغراء امام فرنسا، كي تعمل على تحقيق استقلال مصر عن عمقهاوتراثها ومحيطها الاسلامي، والحاقها بالنفوذ الغربي,, فلقد قالوا ان مصر التابعة لفرنسا، ستكون بداية النفوذ الفرنسي الى قلب افريقيا,, وفي ذلك تحقيق حلم لويس الرابع عشر (1638-1715م) الذي اراد تحقيقه بضم الكنيسة الاثيوبية الى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية,, ولما كان مفتاح الكنيسة الاثيوبية -وهي قبطية- في مصر,, فإن الوفد القبطي يعرض على تاليران ان يحققوا لفرنسا هذا الحلم القديم، الذي يبدأ باستقلال مصر عن اسلاميتها، والحاقها بالنفوذ والنظم والتشريعات الغربية!,.
لقد عرضوا ذلك، وقالوا عنه في مذكرتهم :لقد كان لويس الرابع عشر يعمل في الظاهر على ضم كنيسة اثيوبيا الى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ، ولكنه كان يسعى في الحقيقة لمد نفوذه السياسي نحو اقاليم وسط افريقيا الجذابة الغامضة, ومن ثم بذل عدة جهود لم يقدر لها النجاح لكي يتعلم في فرنسا عدد من شباب القبط المصريين، لان بطريرك الاقباط هو نفسه رأس الكنيسة الاثيوبية,, واذا كان الملك قد اخفق في مسعاه، فإن الجمهورية الفرنسية اليوم,, -اذا ارادت- يمكنها عن طريق الامة المصرية، التي ستكون موالية لها، مد نفوذها نحو اواسط افريقيا,, وبذلك تحقق ماعجزت عن تحقيقه الملكية المطلقة الاستبدادية ؟! (9)
فالمقاصد والغايات هي :استقلال مصر عن الدائرة الاسلامية والهوية الاسلامية,,واخضاعها للنفوذ الفرنسي والتأثير الفرنسي في النظم والتشريع، واستخدام الاقلية القبطية اداة لتحقيق هذا الاستقلال الذي يجعل مصر موالية لفرنسا،وبوابة لقلب افريقيا الارثوذكسي، عبر الكنيسة الارثوذكسية المصرية؟!,.
هكذا بدأ الحديث عن هذا الاستقلال في ظل هذه الشراكة بين الغرب والاقليات,, وهو - كما نطقت الوثائق- الحاق وتبعية,, ومن ثم الغاء للتعددية الحضارية، والتميز الحضاري الذي عاشت به وفي كنفه هذه الاقليات!,.
ومن عجب ان هذا النفر من اراذل الاقباط - والذين لم ترض عن مسعاهم كنيستهم,, ولاجمهور طائفتهم- كانوا يتسولون هيمنة الغرب على بلادهم، بعد خيانتهم لها، وتحولهم الى سياط للفرنسيين اكتوت بها ظهور الشعب,, كانوا يصنعون ذلك، في نفس الوقت الذي اعلنت فيه الامة، المؤمنة بالتعددية ، العفو عن خياناتهم،واعطت لهم ولذويهم عهود الامان والاطمئنان؟!,.
ففي يوم 2صفر سنة 1216ه - اي قبل رحيلهم مع الجيوش الفرنسية المنسحبة- اعلنت مصر امانا لأكابر القبط ,, وفي يوم 8 ربيع الاول سنة 1216ه نودي - في مصر- بان لا احد يتعرض بالأذية لنصراني ولايهودي، سواء كان قبطيا او روميا او شاميا، فإنهم من رعايا السلطان، والماضي لايعاد ؟!
وفي يوم 3 ربيع الثاني سنة 1216ه عم الامان في اقاليم مصر فكتبت فرمانات، باللغة العربية، وارسلت الى الشرقية والمنوفية والغربية مضمونها: الكف عن اذية النصاري واليهود اهل الذمة وعدم التعرض لهما، وفي ضمنها آيات قرآنية واحاديث نبوية، والاعتذار عنهم بأن الحامل لهم على تداخلهم مع الفرنساوية صيانة اعراضهم واموالهم ؟!,.
وفي اول جمادى الاولى 1216ه قرئت فرمانات عثمانية بإعادة القيادات القبطية، التي عاونت المحتل، الى سابق وظائفها المالية والكتابية، والتوصية بمعاملتهم بالحسنى,, ومن هذه القيادات: جرجس الجوهري,,وواصف ,, وملطي (10) ؟!
لكن هذه العهود وفرمانات الامان، وان عالجت الكثير من الجراح، الا انها لم تغلق تماما ثغرة الاختراق التي فتحتها الغزوة الاستعمارية الحديثة في جدار الهوية الاسلامية لامتنا,, فلقد كانت هذه الثغرة هي الصفحة الاولى في كتاب الهيمنة والتبعية والتغريب والالحاق وهو الكتاب الذي تعددت فيه الصفحات، وتوالت الفصول!,,
ففي عهد محمدعلي باشا (1184-1265ه 1770- 1849م) جاء السانسيمونيون -اتباع الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي سان سيمون (1675-1775م)- وقادوا العديد من انجازات التحديث على النمط الغربي ، وبه غرسوا بذورا لفلسفتهم الوضعية المعادية للمرجعية الدينية ,, وهي بذور اخذت تنمو، كما وكيفا، مع تزايد عدد الجاليات الاجنبية وتأثير النفوذ الاجنبي، وخاصة بعد نجاح السانسيمونيين في الحصول على امتياز شق قناة السويس ،وهو من مشاريع عالميتهم وامميتهم الغربية ، التي استهدفوا من ورائه: إقامة ممر عالمي ، يمتلكه الغرب، ويتخذه طريقا لتسويد فلسفته على العالم؟!,, (11)
فلما تطورت الاحداث الى حيث قامت في اغلب ديار الاسلام سلطات الاستعمار الغربي المباشر، بدأت فكرياته ومناهجه ومذاهبه في السيادة على المؤسسات التي اقامها، وفي التاثير من خلال هذه المؤسسات,.
وفي خدمة سلطات الاحتلال الانجليزي في مصر، تأسست مدرسة للتغريب، تكونت، اساسا، من مجموعة من القيادات الفكرية المارونية، التي هاجرت من الشام الى مصر، والتي كانت كارهة للاسلام كراهتها للدولة العثمانية، لكنها لم تكن تستطيع المجاهرة بالدعوة الى رفض المرجعية الاسلامية لمشروع النهضة المنشودة، فاحترفت التبشير بالنموذج الغربي ونظرياته وعلمانيته، مرجعا للتقدم والتحديث,, ولقد عملت هذه المجموعة - التي مثلت الامتداد لمشروع المعلم يعقوب,,والتنمية لبذور السانسيمونيين ,, والتطبيق لمناهج ومقاصد مدارس الارساليات التنصيرية - في لبنان-,, عملت في خدمة سلطات الاحتلال الانجليزي، او في المساحة المرضي عنها من هذه السلطات,, وذلك من خلال مؤسسات ومجلات وصحف، من مثل الاهرام (1292ه 1875م) و المقتطف (1293ه 1876م) و المقطم (1306ه 1889م) و الهلال (1309ه 1892م) ودار المعارف (1308ه 1890م) والجامعة (1316ه 1899م),, وكان من اعلام هذا التيار التغريبي: سليم تقلا (1265-1309ه 1849-1892م) وبشارة تقلا (1268-1319ه 1852-1901م) ويعقوب صرّوف (1268-1345ه 1852-1927م) وفارس نمر (1272- 1370ه 1856-1951م) وشاهين مكاريوس (1269-1328ه 1853-1910م) وجرجي زيدان (1278-1332ه 1861-1914م) وفرح أنطون (1291-1340ه 1874-1922م) وشبلي شميل (1276-1335ه 1860-1917م) ونقولا حداد (1295-1373ه 1878-1954م),, الخ,, الخ,.
وفي موازاة مع هذه الطلائع الوطنية! المتغربة، والمؤسسات الفكرية والثقافية والاعلامية التي اقامتها,, او اطلت على العقل العربي من خلالها,, كانت هناك ارساليات التنصير ومدارسها وجامعاتها، التي زحفت على الشرق -وبخاصة لبنان ومصر، في القرن التاسع عشر، والتي توسلت بالتغريب والعلمنة بل وبالمادية,,واحيانا بالالحاد: لزحزحة الشرق عن مرجعية الاسلام، وقسره على القبول بواحدية الحضارة الغربية دون غيرها من الحضارات,, لقد كانت مدارس ارساليات التنصير تصوغ العمالة الحضارية والسياسية الصريحة، ليخرج منها الخريجون فيمارسوا هذه العمالة في ثياب مموهة، تحمل عناوين العلمانية والتقدم والتحديث على النمط الغربي , الذي كان مزدهرا وجذابا في ذلك التاريخ!,.
واذا شئنا نماذج على هذا الدور الذي احترفت القيام به المؤسسات التعليمية لهذه الارساليات التنصيرية، فإن في مراسلات قناصل فرنسا في بيروت الى حكومتهم البراهين على احتراف هذه المؤسسات صناعة العمالة والعملاء في بلادنا,.
ففي مراسلات عن المدرسة التي اقاموها في قرية عينطورة اللبنانية، يتحدثون عن مايحققه توسع هذه المدرسة لنفوذنا، فإنها تقدم للملك -(ملك فرنسا)- فائدة مباشرة، فإذا وهبنا لها عشر منح، او خمس عشرة منحة واذا كان بالامكان توفير قسم من هذه المنح لبعض اطفال الاسر المارونية ذات الارتباط الوثيق بفرنسا، فإن حكومة الملك ستخلق بين هذه العائلات، من خلال نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين، نقاط اتصال جديدة معها ومع البلد، ورموزا جديدة وثمينة للاعتراف بفضلها,, ان حكومة الملك,, تدري تماما ان خدمتها للمصالح الدينية، تعني خدمة الحضارة التي هي في الوقت نفسه مصالح السياسة الفرنسية ؟!
وحتى كلية الطب التي اقاموها في بيروت، انتقدت مراسلات القناصل اتجاه بعض الاساتذة الذين ارادوا اخضاعها للفوائد العلمية ,, وقالوا :إن الغاية الاولى للمؤسسين هي ان يجعلا من هذه الكلية فكرة سياسية ومؤسسة دعائية !
اما المؤسسان اللذان تشير اليهما الرسالة، فهما رئيس الوزراء الفرنسي غمبتا (1838-1882م) الذي قدم الانذار الشهير للثورة العرابية في مصر 1881م,, والكاردينال لافيجري وهو الذي اعلن في احتفالات فرنسا 1930م بمرور قرن على احتلالها الجزائر :لقد ولى عهد الهلال واقبل عهد الصليب، وانه سيستمر الى الابد,, وان علينا ان نجعل ارض الجزائر مهدا لدولة مسيحية مضاءة ارجاؤها بنور مدنية وحيها الانجيل ؟
وفي رسالة اخرى، يتحدث القناصل الفرنسيون عن ان عدد سكان سوريا يبلغ حوالي مليون واربعمائة الف نسمة، بينهم ثلاثمائة الف مسيحي - اي خمس عدد السكان- ,, ومع ذلك يتحدثون عن السعي لسيطرة الاقلية - الخمس- على الاغلبية- الاربعة اخماس-!,, فيكتبون : ان على هذه الاقلية ان تعيد الحياة للاكثرية التي تعيش بينها،وذلك بأن تشاد مؤسسة كبيرة، تحت حماية فرنسا، تستقبل اطفال هؤلاء المسيحيين، وتعلمهم مجانا، وتدربهم لكي يصبحوا حين انخراطهم في المجتمع رجالا اخلاقيين وصناعيين، يتكلمون جميعا اللغة الفرنسية، ويدينون لفرنسا بماهم عليه من نعمة !,.
ولقد رأينا ثمرات هذا التخطيط، الذي تحدثت عنه هذه المراسلات التي كتبت قبل قرن ونصف من الزمان؟!,.
واذا كانت الاهداف قد وضحت وضوح الشمس، من خلال هذه السطور التي اقتبسناها من هذه المراسلات,, فإن فيها عبارات ابلغ وافصح في التعبير عن حقيقة الاهداف,, لقد كتبوا: إننا نريد ان نجعل من سوريا حليفا اكثر اهمية من مستعمرة !,, وقالوا: اننا نريد تأمين هيمنة بلدنا على منطقة خصبة ومنتجة !,, و إننا حين ننشر في هذا البلد، بواسطة اللغة الفرنسية، التعليم،والاخلاق، والفنون المفيدة، والزراعة ، فإننا سنسيطر على الشعب، وسيكون لفرنسا هنا في كل وقت جيش متفان !,,بل وقالوا ماهو اكثر- وافظع- ففي رسالة مؤرخة في ديسمبر 1847م كتب القنصل الفرنسي الى السفير يقول عن المقاصد النهائية لإرساليات التنصير ومؤسساتها التعليمية: :,, وهكذا ستنحني البربرية العربية لا اراديا امام الحضارة المسيحية لاوربا,, (12) ؟؟!,.
***
الهوامش:
(1)المعلم يعقوب بين الحقيقة والاسطورة ص29.
(2)انظر كتابنا (إسرائيل,, هل هي سامية؟) ص32 طبعة القاهرة سنة 1968م.
(3) (عجائب الاثار) -للجبرتي- ج5 ص 148،149.
(4)المصدر السابق, ج5 ص4.
(5)المصدر السابق, ج5 ص134.
(6)المصدر السابق, ج5 ص136,وانظر في اخبار كل ذلك نفس المصدر وقائع سنة 1214ه و سنة 1215ه.
(7)المعلم يعقوب بين الحقيقة والاسطورة ص123-125.
(8)المرجع السابق, ص129،130.
(9)المرجع السابق, ص131،132.
(10)عجائب الاثار ج5 ص 285، 292،299، 304.
(11)انظر: د,محمد طلعت عيسى (اتباع سان سيمون: فلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر) طبعة القاهرة- الدار القومية- بدون تاريخ.
(12)هذه المراسلات من محفوظات ارشيف وزارة الخارجية الفرنسية- بباريس-وهي مكتوبة في سنوات 1840،1841،1844، 1848، 1897،1898م.
|
|
|