عزيزتي الجزيرة تحية طيبة وبعد,.
فقد قرأت في عدد سابق من جريدتنا الحبيبة الجزيرة زاوية بدون ضجيج مشروع 3 للاستاذ جار الله الحميد ذكر فيها ما ملخصه كلنا روايات واود ان اعقب على ذلك فأقول:
اولا وقبل البدء في صلب الموضوع فان زاوية الاستاذ الحميد بدون ضجيج لم تخل هذه المرة من الضجيج، وذلك كقوله قلت له منفعلا ، متشنج متعصب , ولم ينس ان يسمعنا اصوات الكومبرسورات في الشوارع: الحفر التي لا تنتهي والطلاب الى مدارسهم .
واراه يضيق بالحفر التي لا تنتهي مع انها ظاهرة صحية، فهي اما لانشاء البنية التحتية التي هي من ألزم الضرورات الكهرباء والماء والهاتف والصرف الصحي , واما لصيانتها ولا يتم اي منهما بدون حفر واما لصيانة الشوارع نفسها.
ثانيا: موضوع التعقيب هو على قوله انت بذاتك رواية، كلنا روايات وهذه دعوة الى الادب الواقعي الذي يصور حياة الناس كما هي ومن هنا احببت ان اعرض للمذاهب الادبية المختلفة.
والمذهب الادبي هو اتجاه في التعبير الادبي يتميز بسمات خاصة ويتجلى فيه مظهر واضح من التطور الفكري ويكون وليد ما يضطرب في عصر بعينه من تغيرات وتحولات في اوضاع المجتمع وطابع الحياة.
ويرتكز المذهب الادبي ايا كان على دعائم من العقل والعاطفة والخيال, وهذا عرض موجز بل مبتسر لاهم المذاهب الادبية*:
1- الكلاسيكية او الاتباعية وهو اول مذهب ظهر في اوروبا بعدما يسمى بعصر النهضة او بعد حركة البعث العلمي التي ابتدأت في القرن الخامس عشر.
والكلاسيكية مشتقة من كلمة لاتينية تدل على الطبقة الممتازة في عصر الرومان, ثم استعملت رمزا على الادبين الاغريقي والروماني اساسي عصر النهضة, واطلقت كذلك على ما انتجته قرائح الكتاب في عصر النهضة, وقد اقبل الناس في ذلك العصر على المذهب الكلاسيكي الاتباعي لان روح المجتمع آنذاك القرن الخامس عشر وما بعده هي روح المحافظة على التقاليد الارستقراطية.
ويتميز المذهب الكلاسيكي بغلبة الاسلوب على المعنى، والشكل على المضمون، والاهتمام بقيود الصنعة على حرية التعبير، والتمسك بايثار العقل على العاطفة والخيال, وعلى ذلك فأهم ما فيه قيود ورسوم على الاديب ان يراعيها.
اما موضوعه فمستلهم مما شاع في عصره - كما يقولون - من الاشادة بالفضائل والتقاليد والفروسية والفناء في الحب وهو يلمس المشاعر ولكن لا ينفذ الى اعماقها.
والكلاسيكية تطلق الآن على كل نموذج ادبي حي يحمل في ثناياه عناصر البقاء والدوام ولا يزال القراء يقبلون عليه جيلا بعد جيل.
2- الرومانسية:
ابتداء من منتصف القرن الثامن عشر انتقلت الحياة الاجتماعية في اوروبا من عصر الارستقراطية والاقطاع الى عصر الطبقة الوسطى وعصر الآلة التي قللت من شأن الفرد وقيمته في العمل الفني, وضاق الاديب بالقوالب التي جعلته يحيا حياة معقدة ذهبت بشخصيته وكيانه, فانهار نتيجة لذلك المذهب الكلاسيكي وظهر المذهب الرومانسي, وهو ليس مذهبا حديثا ولكنه قديم قدم الاساطير الاغريقية والاوذيسا.
وبدأ عصر الرومانسية مع ازدهار الاعمال الادبية الخيالية, وطابع الرومانسية هو الهروب من الكلاسيكية وقيودها والتحرر من سيطرة الآداب الاغريقية والرومانية ومن كافة الاصول والقواعد الخاصة بالكلاسيكية.
وتتميز الرومانسية بتقديم العاطفة والخيال والاحساس على العقل والمنطق والحكمة ورفض الحياة الصناعية وضغوطها على الفرد.
فالاديب الرومانسي يطلق لعاطفته الخيال ويهرب من وطأة الحياة المادية, ويعيش في عالم خاص صنعه من خياله, ويجعل من الطبيعة امه الحانية فيناجيها ويتغنى بجمالها.
كما ان الرومانسي يعزف عن القيود في الشكل ويحصن فرديته من الضياع ويعتني بشخصيته المستقلة.
فالادب الرومانسي في جملته ادبُ دعمٍ للشخصية الفردية, واحسن ما وجده الرومانسي الشعر حيث يتميز الشعر الرومانسي بلغة غنائية موسيقية وقواف منوعة دقيقة، وتصوير مليء بالجاذبية الحسية، مع العناية بألوان من الظلال العاطفية، وفنون غريبة من جمال الفكر والخيال والاسلوب.
3 - الواقعية:
وبينما كان الادب الرومانسي يحلق في النزعة الفردية، ويطير مع العاطفة والخيال، كانت الاكتشافات العلمية تخترق الآفاق وينتشر العلم القائم على التجربة والتحري والتحليل والتطبيق، ويسعى بما توصل اليه من نتائج وقوانين علمية لادراك طبائع الاشياء وحقائق الكون، فتباعدت المسافة بين العلم والادب، فالادب يطير في الخيال بعيدا عن الواقع والعلم يعيش على الارض والواقع والحقيقة.
وهكذا وجد رجال الفكر والادب انفسهم امام الواقع العلمي، فتخلوا عن انطوائهم ليتعايشوا مع الواقع فنشأ المذهب الواقعي او التجريبي الطبيعي مع تقدير للظواهر الاجتماعية والانسانية.
فالواقعية مذهب موضوعي غير ذاتي ولا فردي، يسجل الملاحظات والمشاهدات كما هي دون ان يتدخل الاديب في ذلك باحاسيسه وعواطفه الخاصة، مع الالتزام بتمام الموضوعية واستيعاب لما في الحادثة من معالم خاصة وتفاصيل دقيقة مع التزام الحياد التام.
كما يصف الواقعي المجتمع الانساني على حقيقته بأمانة وصدق وبعد عن الهوى الشخصي, فالتحليل بدل التخييل، والمحسوس بدل الخيال والعاطفة والوجدان.
واختُلف في مفهوم الواقعية فقالوا انه الادب الذي يقوم على ملاحظة الواقع وتسجيله دون الخيال وصوره وهذا هو الفرق - في نظرهم - بين الرومانسي والواقعي.
وقالوا انه الادب الذي يستقي مادته من العامة فهو يفترق عن الكلاسيكية القائمة على الارستقراطية.
وقالوا انه الادب الذي يصور مشكلات حياة البؤساء والفقراء والمحرومين مع دعوة لحل هذه المشكلات.
واذا كان مجال الرومانسية الشعر فمجال الواقعية القصص والمسرحيات النثرية.
وبعد مرور فترة من الزمن اكتشف الناس ان العلم ارتفع بالحضارة والمدنية لكنه لم يستطع حل قضايا البشر المعقدة والنفاذ الى النفس البشرية, وادركوا ان الادب الواقعي اسرف في واقعيته فاصبح رسما جامدا للشخصيات والمرئيات وتسجيلا مجردا لظواهر المجتمع وتصاريف الحياة كما عجزت الواقعية عن تلبية مطالب الانسان العقلية والروحية فتطلع الادباء والمفكرون الى مذهب ادبي جديد يستبطن النفس ويستشف الروح ويترجم ما تتناجى به السرائر فظهرت:
4- الرمزية: وقد ظهر المذهب الرمزي في القرن التاسع عشر بعد الملل الذي اصاب الناس من المذهب الواقعي منكرا ان تكون الظواهر هي الحقائق وان الوسائل العلمية تستطيع الكشف عن دواخل الانسان.
والرمزية تعتقد ان الحقيقة البشرية باطنة خفية وان المشاهد الواقعية ايهام وتمويه وان الذي يجري وراء الظواهر انما يتبع السراب.
والحقيقة البشرية لدى الرمزيين تُعرف وتكتشف بالفطنة المرهفة وإعمال التأمل لا مجرد النظر، والنظر بالبصيرة لا بالبصر، والاستسلام لاحلام اليقظة والتلطف والايحاء والالهام.
والتعبير الرمزي ينصرف عن الايضاح والافصاح الى الاشارة والتلميح ويأنس بما وراء المنظور مكتفيا بالظلال والاطياف اللماحة، وهو لا يسمي الاشياء بأسمائها وانما يومىء الى اجوائها، لذلك اهتمت الرمزية بالموسيقى في الشعر.
ولان المذهب الرمزي مجاله ضيق ولانه مظهر لترف الفكر ورهافة الحس وصفاء الروح فهو يستهوي طبقة خاصة من الناس، بينما العامة لم يسيغوه لوعورة مطالبه, ذلك ان الرمزية كانت رد فعل ارستقراطيا بسبب اهتمام الواقعية بعامة الناس ولان الرمزيين لا يخاطبون الناس بل يتحدثون الى انفسهم لذلك تضاءل وجوده وانحسر ظله فظهرت:
5- السريالية: وهي مذهب سيئ نشأ عما خلفته الحرب العالمية الاولى من فظاعة المجازر والقتلى والمشوهين والايتام والارامل.
لقد خاب ظن الناس في كل ما كان سائدا من قيم مأثورة ونظريات ثابتة، اذ رأوا الكيان البشري يتصدع فداخلهم اليأس من ان يكون معها صلاح، والتمسوا في مواجهة حياتهم شيئا آخر غير التراث من نظم واوضاع ومقاييس, وكان ان ظهرت دعوة جارفة الى التحلل من الاخلاق ولاشباع الغرائز كيفما كان، وانتقلت هذه النزعة الى الفن والادب مما ادى الى ظهور المذهب الأدبي المعروف السريالية وهو مافوق الواقع او ما وراء الواقع او المذهب الذي يستند الى اللاوعي .
ومعنى هذا فقد الثقة في المذاهب الادبية السابقة، وفي قواعد الادب والفن وخصوصا ما يتعلق بصيغ التعبير وقوالبه، فلا اعتبار عند السيرياليين للتمييز بين الخطأ والصواب والحلم واليقظة والعقل والجنون, ولا اهمية عندهم للتسلسل والتواصل في العمل الادبي حتى ولا التناسق بين اجزائه.
ولا اهمية لديهم ان يقدم القاص حكاية ذات كيان او ان يرسم الرسام صورة شاملة، ولكن بحسب القاص ان يذكر خواطره حائمة على موضوعه دون نفاذ، وحسب المصور ان يبهر العين بومضة من الجمال في مظهر من مظاهر الكون.
ولشدة اهتمام السيرياليين بالايحاء والاثارة فانهم لا يحفلون ان يضع الكاتب خاتمة لمسرحيته او قصته بل يترك للمشاهد او القارىء تصور الخاتمة التي يريدها.
كما تخلص السيرياليون من قيود الشعر -كما سموها- من مقاطع واوزان وفي النثر من مقاطع الجمل.
ومع كل ما ذكرنا فان السيريالية قدمت للادب والفن وجهة نظر جديدة من تحرر من طرق العقل الواعي ومن سطحية التفكير.
ثم ما لبث هذا المذهب السيريالي ان انطفأت جذوته وخفت حدته واصبح اكثر اعتدالا واقرب منالا, ومن اعلامه في الادب الكاتب الفرنسي كوكتو، وفي التصوير الفنان العالمي بيكاسو.
6- الوجودية: وظهرت كصرخة احتجاج ضد الحرب العالمية الثانية التي كانت اشد فظاعة من الحرب العالمية الاولى حيث احدثت الثانية ازمة في الضمير الانساني بسبب العنف والفظاعة.
وبداية الوجودية فلسفية ثم انتقلت الى الادب والفن, والغاية من دعوة الوجودية اعلاء الفردية ونبذ العادات والتقاليد, ومن روادها في الفلسفة جان بول سارتر والبير كامو, وهي دعوة الى ما بعد الحرية -الى الفوضى-.
ومع ذلك فقد سمى الوجوديون أدبهم الملتزم ، وهو التزامهم بموقف اخلاقي واجتماعي محدد تجاه الاحداث، فجعلوا القيمة الفنية والجمالية في الادب في المرتبة الثانية بعد القيم الاخلاقية والاجتماعية الملتزمة.
والوجودية تقوم على دعائم من الحرية الفردية والمسؤولية والالتزام وهي قائمة على الالحاد.
ملاحظة: لعلنا لاحظنا ان الناس فجروا بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية بدل الالتجاء الى الله تعالى، وهذا ما ذكره امام الدعوة المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في كتابه التوحيد - حق الله على العبيد من ان مشركي زماننا اغلظ شركا من المشركين الاولين حيث كان المشركون الاولون يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة بينما مشركو زماننا يشركون في الرخاء ويشركون اكثر في الشدة, قال الله تعالى: فاذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البر اذا هم يشركون .
بقيت كلمة عن الوجودية انها وجه آخر للسريالية لما بينهما من صلة في الاسباب والنتائج.
اما الادب العربي فلا يخلو من نزعات واتجاهات تصلح للمقابلة بينها وبين هذه المذاهب السالفة الذكر كنزعة الغزل العذري القائمة على اتجاه روحي، والغزل الاباحي في شعر عمر بن ابي ربيعة، وخروج ابي نواس على تقاليد القصيدة العربية، وظهور مذهب البديع ورائده ابو تمام, وقد تأثر ادبنا العربي بتلك المذاهب الغربية المختلفة من حيث مضمون الادب وشكله واصوله وغاياته واهدافهشكرا لصحيفة الجزيرة النبيلة وصفحة عزيزتي الجزيرة الجميلة والقراء الكرام والسلام ختام.
* الموضوع ملخص من محاضرات لاستاذنا المرحوم الدكتور عبدالعزيز عتيق من كتابه النقد الادبي .
نزار رفيق بشير
الرياض