عودوا إلى المصطلحات الفنية RERMINOLOGY د, كمال الدين عيد |
(2-2)
* مصطلح التجريب.
تتفق معظم التراجم والقواميس على أن لفظة تجريب EXPERIMENT تعني التجربة أو الاختبار أو الاعتماد على مبدأ التجريب في البحث, وفي الدول المتقدمة في مجال المسرح نعثر بندرة على مركز البحوث التجريبية THEATRE EXPERIMENT STATION كما في العاصمة البولندية وارسو أخيرا.
* المفهوم العلمي للتجريب.
من المسلم به أن التجريب العلمي قد قام في الزراعة والصناعة قبل دخوله إلى التجريب في الآداب والفنون, وأرى فلسفة التجريب - من وجهة نظري - ترتكز أول ما ترتكز على العقل البشري عند الإنسان الذي يدفع بكل العمليات الابتكارية وخطواتها في مختلف فروع المعرفة إلى التحقيق، ومن ثم إلى التطبيق فالانتشار، حتى يصبح التجريب كلاسيكيا (سائداً)، فالعمليات الابتكارية تظل دائماً في مصاحبة العقل الحساس المفكر، وعلى مستوى رفيع من التفكير الناضج المتمتع بالعلوم والثقافات ونتائج تراكماتهما، والحصيلة في التجريب الفني أن يترك التجريب أثرا إبداعيا جديدا ومؤثرا بعد أن يتوصل في مضامينه وأشكاله إلى إبداع متميز تلحظه الجماهير وتستفيد منه في الحياة الفنية.
* التجريب في المسرح:
على مساحة الدول العربية التي لم تعرف المسرح إلا حديثا ففي رأيي أن أي تجريب مسرحي لابد أن يرتبط بالماضي المسرحي، وبالأهداف الاجتماعية، وبواقع الجماهير التي يعرض لها, وحتى تلاحظ هذه الجماهير الفروق بين منهج العروض التقليدية والقفزة التجريبية الحادثة في عروض المسرح التجريبي, إذ بدون هذه الملاحظة واستيعابها يظل التجريب خالي الوفاض، طالما أننا اعتبرنا المسرح مؤسسة ثقافية يتجه بانتاجه - تقليديا كان أم تجريبيا - إلى الجماهير التي هي مجموع أفراد المجتمع أيا كان، ومهما كانت ثقافته.
ومن جانب آخر، وأعني به الوجه الآخر للعُملة التجريبية, فإن رجل المسرح في التجريب يدخل إلى عالم واسع من التطورات تتنافى مع القديم التقليدي، وإلى جديد من الأفكار غير المألوفة، وإلى كم من الخواطر الإبداعية، وكلها تستهدف أنماطا جديدة لتشكيل الحياة، وقيما جديدة لا تشبه الماضي، باعتبار أن التطور في الفن تجديد نحو المدنية وتطور تجاه الترقي بالفكر والحس الإنسانيين قوميا ووطنيا, بمعنى تجريب يحمل عناصر الفرادة ذات الأنساق والدلالات الاجتماعية التي تتفاعل حتما مع الواقع الاجتماعي للجماهير ولحظات وأيام الكتل البشرية الحية.
وانسياق وتبعية التجريب العربي إلى ما يسمى (التعبير الجسدي) وحده,, رقصا حتى وإن كان تعبيريا، موسيقى، غناء، وقفزات بهلوانية (أكروباتيكية) ACROBATICS، مع دخان كثيف وسط ظلام دامس إلا من شموع تحترق في الهواء (مع أن المسرح نور وتنوير لكشف التعبير على وجوه الممثلين)، وطبل وقرع حاد, هذه الصورة المتكررة والمعادة تقليد أعمى من مسرح جرسي جروتفسكي J. GROTOWSKI الذي بدأ بالتعبير الجسدي العاري في أولى محاولاته عام 1957م في مسرح (13 رزدوف) THETR 13 RZEDOW حتى برزت فكرته عام 1965م في فروكلاف WROCLAW فترك بلده بولندا ليسوح العالم بلا تأثير تجريبي, هذه الصورة القديمة التي ولى زمانها لا يمكن أن تفي اليوم بحق المسرح العربي في التجريب لصالح جماهير الألفية الثالثة, وأستند في رأيي هذا إلى أن التعبير الجسدي - وهو واحد من مستلزمات فن الممثل - لا يمكن أن يؤثر وحده بالإصلاح أو النقد الاجتماعي أو التوجيه دون استعمال اللفظة أو الكلمة VERBAL، بل وأحدد الكلمة الدرامية النافعة الحاملة للمعنى في ألفاظ مختارة, ذلك لأن العبارة اللاتينية القديمة (وكل لبيب بالإشارة يفهم)
VERBUM SAPIENTI SAT EST قد ولى زمانها منذ قرون، فضلا عن أنها لا تتفق آنيا مع مجتمعات عربية نصف تعدادها تقريبا من الأميين, فلسنا ألباء (جمع لبيب) على أي حال حتى نضمن ايصال مضامين درامية ومشكلات وقضايا نفسية معاصرة بالحركات الجسدية والإشارات والصمتات, إضافة إلى أنني شخصيا لا أثق في جماليات شكلية يمكن أن تنطلق من أسس فكرية ثابتة, فالفكر هو العقل أو ما يأتي منه ويصدر عنه, والتعبير عن الفكر في الآداب - قصة أو رواية أو أسطورة أو شعرا - لا يمكن أن يكون بالأشكال أو الصيغ الجمالية وحدها، وإلا انتبه الاغريق مبدعو علم الفلسفة والجماليات والمسرح إلى ذلك في أساطيرهم.
مثل هذه الأشكال ما هي إلا بمثابة الحلية أو الزخرفة تقفز في غير مشروعية على الآداب والفنون (فن الزخرفة في الفن التشكيلي ليس من الفنون المستقلة مثل المعمار أو النحت أو التصوير الزيتي لخلوه من الفكر، لكنه فن مساعد زخرفي لا أكثر لأنه لا يحمل مضامين أو يعبر عن موضوعات بذاتها).
لعل هذه المتناقضات في فهم معنى ومهمة التجريب هي التي حدت بالناقد أنس زاهد (جريدة الشرق الأوسط العدد 7586 في 5/9/1999م) إلى قوله أن المسرح المصري تحول منذ السبعينيات إلى مسرح تجاري يتألف من تركيبة غريبة من الابتذال تجمع بين التهريج والرقص والجنس، وهي توليفة ليست لها اية علاقة بفن المسرح، وأن إقامة مهرجان للمسرح التجريبي على أراضي إحدى الدول العربية هو نوع من الجهل بالواقع الفني والثقافي والحضاري الذي نعيشه .
لكننا نعرف جميعا ان لفظة الحضارة تعني الدخول إلى عوالم واسعة من الفهم والادراك والوعي والمعارف، وتتلاقى مع المواطنة في عمق وتنوير، وتهتم بالمزاج الحياتي للإنسان ومتطلباته وحاجاته, فما بالك بواقعه الاجتماعي أو نموه الثقافي في حركة التنمية الثقافية المعاصرة؟
* تصنيف التجريب العربي.
بالبحث العلمي في التيارات والحركات الفنية والهبات التي تهب على الفنون بين الحين والحين، تحتل مدى زمنيا طال أم قصر، وتولع بها الجماهير، ثم تختفي إلى غير رجعة (حركة كوميديا الفن في المسرح الإيطالي في عصر النهضة الأوروبي، حركة مسرح العبث أو كما أطلق عليها اللا معقول، أجد ما يقدم اليوم باسم التجريب يتشابه مع فن التقديم SPEECH - ART أحيانا، فهو الفن الذي يكون الإنسان فيه هو المحور ونقطة الارتكاز، وهو بتعريفه العلمي المحدد هذا شبيه بفن الرقص (الرقص موجود بشكل أساسي في التجريب العربي المعاصر).
لكن التجريب يختلف عن فن التقديم في أنه يقتل الكلمة أو المعنى عند كلماته القليلة في الغالب.
كما يتشابه النوعان (التقديم والتجريب) في حركة الجسد والتقليد والمحاكاة، أي التمثيل الذي يراد استبدال لفظته إلى لفظة الأداء، أي تناقض فكري هذا؟
لقد نص شيكسبير على فن التقديم (فيما يجب أن تفعله فرقة التمثيل) التي أحضرها في مسرحية هملت لتعيد أمام عمه قصة مقتل أبيه الملك الشرعي للدانمرك في منولوج (هاكوبا) الشهير في المسرحية.
كما نعثر على ترديد لمعنى فن التقديم في التناقض الظاهري للممثل ACTOR PARADOX في بحث الفيلسوف الفرنسي دينيس ديديرو عن الممثل الإنجليزي دافيد جاريك DAVID GARRICK (1717 - 1779م).
كما استعمل الدرامي برتولت برخت فن التقديم، لكن وفق منهجه اللا أرسطي, إذ يصبح الممثل في فن التقديم عنده على وعي كامل بما يقدمه دون إغراق في الإحساس المسرحي كاملا.
وبما أن العمل المسرحي هو عمل جماعي، فإن فن التقديم وفنان التقديم يظلان بعيدين عن طبيعة الأعمال المسرحية بلا جدال.
لكن,, لعل أقرب الأشكال - موضوعيا - إلى تجريب اليوم هو فن المنصة STAGE - ART أو كما أطلق عليه في القرن الماضي (فن المنبر) وهو اسم نوع من الفنون المنوعة (منوعات) يهتم بالمقام الأول بالتسلية, وتتألف هذه المنوعات من عدة فقرات فنية (كلمات قليلة، رقص، طبول، موسيقى) تتوالى خلف بعضها البعض في زمن العرض المسرحي.
ويفتقر هذا النوع عادة إلى التركيز، كما لا نعثر فيه على الهدف أو الصراع أو الرؤية الواضحة، أو لنقل التعبير الفني المتماسك جيد الصنع, بل نراه يعتمد على (التتابع) الذي يعطي لشكله توازنا خارجيا (من الخارج) وهو ما ينطبق عليه التعبير اللاتيني القديم (الاعجاب بالتغيير) VERIETAS DELECTAT ففيه تشتمل الفقرات اللا مسرحية على (النِمَر) الغنائية، الرقصات، أصوات كورال أو ترديدات كورس، أكروبات صامتة، مقاطع من فن السيرك، أما فيما يختص بالجانب التمثيلي، فيعتمد فن المنصة على مشاهد يتم إعدادها أو تلفيقها من أصول أجنبية أو محلية، مشاهد بين الميلودراما أو الكوميديا الفجة أو التراجيديا السوداء أو الضحك الرخيص.
انتشر هذا النوع من فن المنصة في فرنسا وفي كباريهاتها على وجه الخصوص في القرنين 19، 20 الميلاديين, وقد نعيد أسباب الانتشار بعد ذلك إلى كونه عاملا مضادا للحركة المسرحية العمالية التي انتشرت في أوروبا وأمريكا خاصة في الثلث الأول من القرن العشرين.
يطلق على فن المنصة في تعبير آخر (فن الطبل) ومن الشواهد يبدو أن عروض هذا النوع لا تهتم بتاتا لا بخشبة المسرح وواجباتها تجاه الجماهير، ولا بفكرة المسرح الاجتماعي أو الثقافي, والمقصود هنا هو الواجبات الاجتماعية والثقافية والحضارية، باعتبار أن المسرح مؤسسة ثقافية على حد تعبير جوته.
لذلك كانت عروض المنصة سهلة التقديم، يقدمها اليوم - باسم التجريب - هواة من المسرح في العالم لم يعرفوا التقليد أو التقاليد المسرحية,, أساس فكرة التجريب, صحيح أن ما يقدمونه يعرض الغرابة لا الفرادة أو التميز, وصحيح أيضا أنه يولد اتصالا جماهيريا خاصة في جماهير لم تتعلم أو تعي وظيفة المسرح.
لكن ما يقدمونه يظل - على مقياس الفن الحقيقي - عرضا عديم القيمة الفنية، بعيدا بعيدا عن حاجات المتفرج العربي.
أنصح دعاة التجريب أن يقرأوا جيدا تاريخ المسرح الذي يمتهنونه، ليكتشفوا أن تجريبهم ماهو إلا (منوعات) اختفت من كباريهات فرنسا منذ قرن مضى - بفعل التطابق والتماثل الواضحين.
لكن من إحقاق القول أن نسجل أن الصورة المضيئة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، هي هذه الترجمات الدقيقة التي يصدرها المهرجان باللغة العربية للمؤلفات المسرحية، وبثمن بخس زهيد.
|
|
|