تأتي الفكرة أولا ثم يتبعها الفعل وما حياة الإنسان إلا محاكاة لما يفكر فيه, فالإنسان في نبرة صوته وفي تعابير وجهه وفي تكتمه وفي انطلاقه انما يعبر عن أفكار تجول في ذهنه, وتتولد الأفكار لدى الأفراد من تجاربهم المتراكمة ومن القصص والأحداث التي يسمعون بها وتكون في معظم الأحيان مثلا عليا تحتذى.
فالانسان الذي يتربى في مجتمع صادق ويعتبر الصدق قيمة عليا يصبح صادقا في الغالب, أما الإنسان الذي يتربى في مجتمع يعتبر الصدق نوعا من السذاجة فيصبح كاذبا في معظم الأحيان.
ان سبق الفكرة على الفعل هو الذي يعطي أهمية للإبداع الأدبي فقد لاحظ احد العلماء البريطانيين ان صفات الانجليز التي وصفها كيلبنج في الهند هي أكثر تمثيلا للجيل الذي قرأ هذه القصص ثم بدأ يحاكي شخوصها ولذلك فان الروائي لا يبتدع شخصيات وإنما يصنع رجالاً وهنا تلاحظ عبء المسؤولية الملقاة على عاتق الروائيين والكتاب والشعراء والأدباء على وجه العموم فهم لا ينقلون الواقع فقط بل ويصنعون المستقبل.
ويمكن تعريف كل جماعة من الجماعات الساسية والتفريق بينها على أساس الفكرة السائدة لديها سواء كان الواقع محاكيها ويمثلها تمثلا دقيقا أو لا.
ان الجماعة مؤلفة من أفراد متنوعين، ولكنهم متحدون بفضل فكرة مشتركة ويتوخون جميعا محاكاتها, وعلى ذلك تتميز جماعةعن أخرى وبالتالي يتخذ الصراع بين الأفكار شكل صراع بين الجماعات, لكن وداخل كل جماعة هناك صراعات بين جماعات أصغر داخلها، فالجماعة الأكبر الأمة مكونة من أقاليم مختلفة وقبائل متنوعة وعوائل متعددة ومهن ووظائف واسلوب حياة مختلف, والتعريف الكلي للجماعة يعكس الفكرة السائدة لدى الجماعة في عصر من العصور، وهذا التعريف يختلف باختلاف العصور ويساهم في صناعة وصيانة التعريف أصحاب السلطة السياسية والمادية والأدباء والمفكرين والعلماء، والثورات التي تحدث وحدثت في تاريخ الأمم تمثل منعطفات أعادت فيها الأمم تعريف نفسها ورسم الصورة المثالية لها التي ينبغي على أفراد الأمة محاكاتها, ولذلك فان ما يسمى بالشخصية الوطنية لدولة من الدول او شعب من الشعوب هو نتاج دين وتاريخ وقيادة هذا الشعب السياسية والفكرية.
لقد كان اليهود في المانيا ألمانا إلى ان ظهرت فكرة القومية الألمانية القائمة على الاعتقاد بوحدة الأصل والعرق الألماني وهنا توقف اليهود عن ان يصبحوا المانا لأنهم استثنوا من ذلك, وبلغت هذه الفكرة اوجها في عهد هتلر, والصراع الحقيقي هنا ليس صراعاً بين اجناس او اعراق فليس واضحا ما اذا كان اليهود جنسا واحدا، وليس صراعا بين طريقين للحياة وانما هو صراع أفكار متعارضة, ان فكرة هتلر عن القومية الألمانية والتي استبعدت اليهود هي سبب الصراع.
ان فكرة وحدة الأصل كأساس للقومية الألمانية حولتها الى قومية متطرفة أدت الى أبشع انواع الحروب والدمار لألمانيا والعالم, ويتميز العرب ومنذ القدم بعدم اهتمامهم الشديد بفكرة النقاء العرقي, فمن الممكن ان يدخل ضمن أفراد القبيلة من يتميز بالشجاعة والاقدام بل وقد يصبح زعيما لهذه القبيلة التي لا ينتمي اليها من الناحية الدموية ولكنه لجأ اليها وتزوج فيها وتقمص شخصيتها, وجاء الإسلام ليؤكد على الاخوة البشرية وان جميع الناس بمختلف ألوانهم ولغاتهم وأعراقهم هم ابناء لنفس الرجل والمرآة آدم وحواء, وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: العربي عريب اللسان بمعنى ان من اتقن العربية وأحب العرب واخلص لهم ودليل ذلك اعتناقه للإسلام قد اصبح عربيا له ما لنا وعليه ما علينا, وتعتبر الرابطة الدموية من أضعف معايير التعريب، لانه قد يخرج من ابناء هذه الجماعة او الأمة من ينتمي اليها من الناحية الدموية ولكنه لا يحبها ولا يخلص لها ودليل ذلك حبه للغة أجنبية الانجليزية مثلا وتقليده لاسلوب حياة الانجليزي او الامريكيين في الأكل واللبس والحديث, بل وقد يصل به المقام الى حب ان ينتصروا حتى على جماعته وأمته لشدة وفرط اعجابه باسلوبهم وحياتهم ولذلك نقول ان مثل هذا الشخص تأمرك ولو حدث هذا على مستوى الأمة لاندثرت أمة بكاملها ليس عن طريق موت أفرادها وإنما عن طريق تركهم لدينهم او جل دينهم وجل لغتهم وتراثهم وتبنيهم لأسلوب حياة جديد لا يعتبر امتداداً للأسلوب القديم وتطورا له بل هو هدم وهجر تام للمعتقدات والتعريف القديم للأمة وتبني تعريف جديد آخر مختلف.
ان أمة من الأمم ممكن ان تهزم عسكريا واقتصاديا ولكنها تعود وتحيا من جديد اما اذا هزمت فكريا فقد انتهت هذه الأمة واصبحت خبرا من أخبار التاريخ مثل الأمم العديدة التي سادت ثم بادت والأمة العربية المسلمة مكتوب لها ان تبقى لتبلغ هذا الدين وهذا سيتم بجهود المخلصين الغيورين على دينهم وأمتهم واوطانهم.
في فضل العرب
يعتقد عبدالله بن المقفع وهو اديب فارسي اتقن العربية لدرجة انه ترجم كتاب كليلة ودمنة للعربية ان العرب هم اعقل الأمم فهم على الرغم من انهم لم يكونوا ,, اولى تؤمه ولا كتاب يدلها (قبل الإسلام) واهل بلد قفر ووحشة من الانس إلا انهم علموا ان معاشهم من الارض فوسموا كل شيء بسمته ونسبوه الى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه واوقاته وزمانه, ثم نظروا الى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعا وصيفا وقيظا وشتاء (لا يوجد فصل للخريف في البلاد الصحراوية), ثم علموا ان شربهم من السماء فوضعوا لذلك الأنواء, احتاجوا الانتشار في الأرض فجعلوا النجوم أدلة.
ثم (وهذا المهم) جعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر ويرغبهم في الجميل حتى ان الرجل منهم وهو في فج من الأرض يصف المكارم فلا يبقي من نعتها شيئا ثم يسرف في ذم المساوىء فلا يقصر, ليس لهم كلام إلا الحث على اصطناع المعروف وحفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد, وقد اصابوا هذا بعقولهم واستخرجوه بفطنتهم لا يتعلمون بل لهم طباع مؤدبة وعقول عارفة, انهم اعقل الأمم لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم .
د, عبدالله فهد اللحيدان