Friday 8th October, 1999 G No. 9871جريدة الجزيرة الجمعة 28 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9871


ثرثارة لا تكلُّ ولا تملُّ
الأديبة التركية الألمانية سفغي أوزدامار

ولدت امينة سفغي أوزدامار عام 1946م وهي تركية الاصل، غير انها تكتب بالالمانية افنعدُّها أديبة تركية ام ألمانية؟ وليس لهذا السؤال من جواب قاطع, ولا ينبغي ان يربك هذا احدا، فهذه الكاتبة تمتع الجمهور القارئ، الالماني والتركي كليهما بما تكتبه غاية الامتاع، وهي تفعل ذلك بأن تأخذ حياة الجمهور اليومية في ظاهرها، ولا تحفل بما يراه او يقوله المجتمع في الموضوع الذي تحكي عنه، فهي تتخذ موقفا كموقف الطفل في حكاية (ملابس الامبراطور الجديدة) يوم قال للإمبراطور إنه عارٍ، إذ كان عاريا، في حين حسب الامبراطور نفسه لابسا حلة جديدة، مثلما كان يقول له الناس من حوله,, وينتج هذا الموقف في الوسط القصصي الالماني والتركي معا مواقف مشتملة على معلومات واخرى مرحة, وهذا مرح ماكر لم يخف، فيما يبدو على حكام الجوائز كذلك، فقد حازت امينة سفغي أوزدامار بين عامي 1991م و1995م ثلاث جوائز، كانت احداها جائزة انغبورغ باخمان.
وتستقي المؤلفة المادة لثرثرتها البريئة الغافلة في ظاهرها، من تجربتها الخاصة، وهي تقدم لنا في روايتها الاخيرة (1) موضوعا للثرثرة ممثلا بفتاة ذات سبعة عشر عاما، تسرد القصة بلسان المتكلم وتودعنا سرها بأنها تريد ان تصبح ممثلة مسرحية، وانها مستعدة للإتيان بكل شيء من أجل انفاذ رغبتها خلافا لرغبة والديها,, وفيما يتصل بالحلم بالعمل في المسرح تتبع بطلة الرواية خطى المؤلفة نفسها التي كانت بدأت التمثيل، والاخراج، والتأليف المسرحي عام 1976م، بشرقي برلين، والذي أفضى بها من هناك الى بوخوم، وفرانكفورت، ثم آخر الامر الى فرنسا,, اما ان كانت أوزدامار، كبطلة روايتها، عملت في ألمانيا في الستينات هنا وهناك بقصد كسب المال لتمويل دراسة التمثيل فأمر لا نستطيع القول به, وليس ينبغي، في كل حال، ان تشتمل الرواية على قدر كبير من الاتفاق بين سيرة البطلة وسيرة المؤلفة حتى يستنتج القارئ تلك الصلة، فثمة عدد لا حصر له من التفاصيل في مشاهد الرواية يثبت ان المؤلفة تعرف التفاصيل التي تقصها في سيرة البطلة احسن معرفة,وتعمل بطلة الرواية وزميلاتها في صناعة مصابيع المذياع في شركة تلفونكن ببرلين, وتبدو مظاهر الحياة اليومية الالمانية مختلفة في الجو التركي عن طبيعتها على نحو غريب, وليس تبعث فينا الضحك تلك المواقف الطريفة المبنية على سوء الفهم وحسب، وإنما كذلك حماقاتنا - نحن الألمان - التي تكشف عنها العين الغريبة,, وكانت العاملات الأجنبيات الأُول لا يفهمن من الألمانية إلا أقلها، فكن كأنهن يعشن خلف حاجز زجاجي يحفظ بقايا حياتهن المعتادة، ويشوه النظرة الى الواقع من حولهن، ويمكن ان ينشأ عن هذا الموقع المعزول كثير من الكآبة,, غير ان أوزدامار لا تلتفت الى ذلك في هذه الرواية، فهي تفيد من شغف بطلتها بالملاحظة لتنظر خلف الواجهات لأبطال أحداث الرواية من ألمان وأتراك, فبواب المصنع يحسب نفسه متفوقا، وهو، في الحقيقة نكرة, ويتعلق سلوك التركيات بحضور الرجل او غيابه، فإن لم يكنَّ في حضرة رجال، انطلقن على سجيتهن, وبينما يخرق الرجال الاتراك القواعد الاخلاقية دونما حرج، نجدهم يطالبون النساء ملء الاشداق بالأخذ بها, اما الطلاب الألمان الذين كانوا يصرخون في الشوارع مطالبين بالتقدم والحريات، فإنهم لم ينتبهوا الى أتراك ألمانيا وإلى ما يعانونه من مشاكل واضطهاد.
أما ما تقوله لنا هده الفتاة ابنة السابعة عشرة بعدُ، فكان موضوعا للصحافة في الستينات, وهو يصدر عن فمها اليافع مبسطا لقلة خبرتها، لكن هذا التبسيط يوضح في كثير من الأحيان معالم الكلام على نحو ربما لم يطقه تقرير متحذلق لمختص,, وتروي الصغيرة ما لديها جميعا دونما غضب او استفزاز، وهي لا تنتظر منا البتة ان نغضب لما ترويه, فتجد الإنسان في وصفها خطّاءً، لكنه، على نحو ما، أهل للحب، غالبا، على أية حال، ونكتشف تدريجيا في المزاح الذي تسرده الكاتبة مفاتيح تفضي بنا الى افئدة التركيات وعقولهن.
وبعد ذلك ينتقل مشهد الأحداث من برلين إلى اسطنبول, فأنقرة، وحتى الحدود العراقية الايرانية, وبعد أن كانت الكاتبة تناولت الواقع الألماني، تتحدث الآن عن الواقع التركي، مطهوا على نار هادئة كذلك، ومقدما للأكل على دفعات صغيرة، وتجري الأحداث أيام رئيس الوزراء ديميرل وخلافاته مع قادة الجيش,, وأيام ثورة الطلاب اليسارية وقمعها عن طريق إرهاب الدولة، وعهد الفجوة بين الحواضر التي اتسمت بحداثة نسبية وبين القرى التي عاشت عيشة القرون الوسطى, وكانت بطلتنا غدت في هذه الاثناء في التاسعة عشرة، وصارت ممثلة مسرحية، أخيرا, وهي إذ تخبر هذا كله ترى أن عليها ان تناصر احد طرفي الصراع,, وتحسب أنه ينبغي ان تنعت ميولها السياسية بأنها يسارية، مع انها تتمنى لو انها عرفت تماما ما معنى ذلك,, وكان مدير مسرح (ونايم) ببرلين زودها بالكتب اليسارية الأساسية، وكان لدى الفتاة كتب لأكثر كتَّاب الاشتراكية والشيوعية الكلاسيكيين، وبطبيعة الحال كتب ماركس وانجلز, غير أن مضامين هذه الكتب جميعها تتحول عندما تصل المتلقية، فبدل ان تكون استراتيجيات ثورية تصبح مهام للروح,, وهي توضح لقراء الرواية السياسية الداخلية لوطنها بالطريقة نفسها التي كانت تحدثت فيها عن الأجواء ببرلين، على نحو قريب الى القلب، منفتح، غير خلو من الفكاهة، تبسيط تركي بالغ,, ولما آل الصراع في تركيا بين النظام والطلاب اليساريين الى صراع دموي، لابد أن تكون بطلتنا احست بالخطر، فصار لرحلتها الى برلين غاية أخرى سوى الاقتراب من تحقيق حلمها بالشهرة المسرحية,, ومن خلال نافذة الطائرة حيّت جسر القرن الذهبي الذي يربط آسيا بأوروبا باعتباره رمزا للأمل بالعودة، يوما ما، يوم تعود الطمأنينة الى بلدها.
سابينه برانت *
(1) جسر القرن الذهبي، دار النشر كيبنهوير وفيتش، كولونيا 1998م .
* نقلا عن مجلة فن وفكر العدد الاخير .
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved