Friday 8th October, 1999 G No. 9871جريدة الجزيرة الجمعة 28 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9871


الغروندريسة فلسفة اقتصادية

(الغروندريسة هي الذروة في نهاية رحلة طويلة وشاقة), على حد تعبير نيكولوس احد ابرز دارسي ماركس, فخمس عشرة سنة من البحث الفلسفي والاقتصادي هي خيرة سني حياة ماركس محتواة في صفحات العمل.
وإذا كانت (الغروندريسة) مبهمة، ومجتزأة في بعض نواحيها، فإنها كذلك العمل الكامل الوحيد الذي كتبه ماركس في الاقتصاد السياسي، من هنا صعوبة وضرورة قراءته في آن واحد.
بيد ان الدراسة المطولة المهمة التي قدم بها نيكولوس (الغروندريسة) لتبيان قراءة هذا العمل، كافية الى حد ما فقد ابرز نيكولوس المزايا والصعوبات.
ان (الغروندريسة) ليست عملا اقتصاديا فحسب، بل لعل بُعدها الفلسفي يحظى بالأولوية في تناول ماركس, وربما كان هذا سببا لتأخر ترجمتها لا الى العربية فحسب، بل الى اللغات الاخرى.
فقد صدرت ترجمتها الفرنسية الاولى عام 1967م، واول ترجمة انجليزية عام 1973م.
إنها على العموم عمل حديث الاكتشاف نسبيا اذ تكفي الاشارة الى انها نشرت للمرة الاولى بعد وفاة لينين بخمس عشرة سنة.
وهي مع (نظريات القيمة الفائضة) تمثل آخر عملين كبيرين لماركس لم يترجما بعد الى العربية.
ان الابقاء على المفردة الالمانية (الغروندريسة) كعنوان للعمل بالعربية يعود الى سببين:
اولهما ان العمل صار معروفا بهذا الاسم حتى في الترجمات الاخرى غير النص الالماني الاصلي.
وثانيهما لان الاكتفاء بعنوان (اسس نقد الاقتصاد السياسي) وهو المقابل الدقيق للعنوان قد يوحي بالالتباس مع عمل آخر ترجم الى العربية اكثر من مرة هو (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي).
ان (الغروندريسة) ذات غنى وصعوبة بالغين في اسلوب عرضها ومحتواها ولغتها، فهي مجموعة دفاتر كتبها ماركس لنفسه ولم تكن معدة للنشر.
إنها سلسلة من سبعة دفاتر، صاغها ماركس كمسودات اولية خلال شتاء 1857 - 1858م لاغراض التوضيح الذاتي بالدرجة الاولى, وقد فقدت المخطوطة في ظروف لاتزال غير معروفة ولم تنشر في الواقع الا عام 1953م، وبنصها الالماني.
ومن بين اعمال ماركس التي نشرت للمرة الاولى في القرن العشرين، تُعد (الغروندريسة)، بلا جدال، العمل الاكثر اهمية ولا يمكن مقارنتها من حيث الاهمية الا ب نظريات القيمة الفائضة، والمخطوطات الاقتصادية، الفلسفية لعام 1844م.
لقد اعتبر ماركس محتويات هذه الدفاتر، اول صياغة علمية للاسس النظرية للشيوعية، وبالاضافة الى قيمتها التاريخية واهميتها في فهم مسيرة حياة ماركس، فهي تضيف مادة جديدة غزيرة وتمثل المخطط الوحيد لمشروع ماركس السياسي - الاقتصادي بكامله.
وتكشف المخطوطات العناصر الاساسية في تطور ماركس وتجاوزه للفلسفة الهيغلية، كماتلقى ضوءا جديدا على المنطق الداخلي ل (رأس المال), وهي مصدر ذو قيمة لا تقدر لدراسة اسلوب ماركس في البحث.
ان (الغروندريسة) تتحدى كل تفسير جدي تم طرحه لماركس حتى الآن وتضعه امام الامتحان.
بالنسبة لحياة ماركس تتوسط كتابة (الغروندريسة) بين صدور بيان الحزب الشيوعي عام 1848م، والجزء الاول من (رأس المال) عام 1867م.
فقد حفزت ازمة 1857م الاقتصادية ماركس على تلخيص وكتابة الدراسات الاقتصادية لمدة عقد ونصف العقد.
لكن ذلك لم يكن سوى الزناد، اما مصدر الاندفاع في العمل فيكمن في ثورات 1848 - 1850م او بتعبير ادق في هزيمة تلك الثورات.
فشبح الشيوعية الذي تحدث عنه بيان الحزب الشيوعي ظهر للمرة الاولى ككل متماسك على المسرح السياسي في سلسلة من الانتفاضات والحروب الاهلية شملت فعليا كل دولة، وامة وكل مملكة وإمارة في قارة اوروبا.
لقد عاش ماركس طوال الخمسينيات في بؤس حقيقي، اذ كان مصدر دخله الوحيد خلال العقد ناجما عن كتابة المقالات لصحيفة (نيويورك تربيون) ولدائرة المعارف الامريكية الجديدة وكان اجره اقل من اجر الكتاب المستأجرين بالقطعة، ومن باب المفارقة ان اجره كان يدفع متأخرا عن الموعد على الدوام.
وعاشت العائلة في واحد من افقر احياء لندن يطاردها الدائنون والمؤجرون, ومرت ايام لم يستطع فيها ماركس مغادرة البيت لان حذاءه ومعطفه كانا مرهونين وفاقم وضعه المالي المرض الدائم الذي كان يصيبه او يصيب احد افراد عائلته.
كتب ماركس مرة يقول لم يكتب احد قط عن النقود بوجه عام وسط مثل هذا العوز الخاص للنقود.
ولا يزال مجرى دراسات ماركس الاقتصادية بين عامي 1850 - 1857م مجهولا نسبيا, فبين ايلول 1850م وآب 1853م ملأ اربعة وعشرين دفترا بملاحظات عن قراءاته في مواضيع السلع والنقود ورأس المال والعمل الاجير والملكية العقارية والتجارة الدولية وتاريخ التقنية والاختراعات والائتمان ونظرية السكان والتاريخ الاقتصادي للدول وتاريخ التقاليد والسلوك والأدب والسوق العالمية والاستعمار وغيرها من القضايا.
ان النقود ورأس المال، وان كانا مرتبطين، فهما كيانان متميزان يستحق الواحد منهما معالجة على انفراد، وتلك نقطة ان يوافق عليها كل اقتصادي.
إن ماركس يطوّر حجته مفصلا ليغدو واضحا منها ان هذين المصطلحين (النقود ورأس المال) اللذين يحتل كل منهما عنوانا لفصل يلعبان ايضا دورا كمتضادين.
اذ تظهر النقود لتشير لا إلى مجرد قطعة ورق او معدن، بل كنظام شامل من العلاقات الاجتماعية المنطوية على حضارة وشخصية معينة.
اما رأس المال فيظهر هو الآخر كنظام من العلاقات الاجتماعية، لكنه يستند الى قوانين معاكسة للاولى تماما، ويقود الى سياسة وحضارة نقيضة تماما، بحيث ان الاقتصاد الرأسمالي ككل يمكن ان ينظر اليه مدفوعاً الى الامام ومقوضا في الوقت نفسه,, بفعل التوترات الكامنة بين هاتين القوتين المكونتين له بشكل مشترك.
ان بعض العناصر في نظرية النقود كدورها ك (رمز) تبدو مصاغة بغير دقة حيث تعاني طريقة العرض من اخطاء مثالية.
ينجم عن ذلك ان تلك الجوانب المحددة من نظرية ماركس في القيمة والنقود التي تعالج القضايا المثارة عادة تحت هذا العنوان في كتب الاقتصاد المدرسية معروضة بشكل افضل في الاعمال التي اعدها ماركس للنشر بعد (الغروندريسة).
إن ماركس لا يكتشف اية وظائف جديدة للنقود بل تكمن مساهمته في كشفه للفرضيات الاجتماعية والسياسية للتعاريف المبتذلة للنقود التي تحويها كتب الاقتصاد السياسي المدرسية، اي ان ماركس يعالج النقود والقيمة كعلاقات اجتماعية.
وهو من ناحية ثانية يعالج الوظائف المختلفة للنقود في ترابطها، كاشفا التناقضات فيما بينها وضمنها، وهو يعالج اخيرا هذه الشبكة من العلاقات الاجتماعية في سياقها التاريخي باعتبارها نابعة من اصل وتنطوي على نهاية.
ان عرض ماركس للنقود والقيمة كعلاقات اجتماعية ذات تشعبات قانونية وسيكولوجية ضمن سياق تاريخي محدد هو ما يشكل بعض اكثر المقاطع قيمة مباشرة في الغروندريسة.
فكل فرد مالك وعامل في آن واحد والنقود هنا هي في الوقت نفسه رابطة اجتماعية، شيء اجتماعي يربط اشخاصا غير اجتماعيين، وتغدو حين تغضب طاغية يلهب بسياطه مياه السوق العالمية.
ان العلاقات بين الافراد في هذا المجال هي علاقات الحرية والمساواة.
ان الحرية والمساواة بصفتها (مجرد افكار) ليست الا تعابير مثالية للعلاقات السائدة في دائرة التداول.
فالعلاقات الاجتماعية والسياسية التي تؤطر حرية ومساواة المالكين الافراد هي مجرد بُنى فوقية لما يجري في السوق.
هنا، وفي النقطة التي تشترى فيها السلع من قبل المستهلك النهائي يتساوى الغني والفقير فكل منهم يقف حسب الدور امام امين الصندوق في سوق الغذاء، ومن يصل اولا يشتري اولا.
بيد ان ماركس يعود الى الموضوع مرة اخرى فيكتب قائلا ان الاقتصاديين السياسيين يقعون في خطأ جسيم حين يفترضون ان الافراد ينطلقون احرارا في السوق وبوساطتها ومن ثم فليس الفرد من ينطلق حرا خلال المنافسة الحرة بل هو بالاحرى رأس المال.
ان تحليل ماهية المنافسة الحرة هو الرد العقلاني الوحيد على انبياء الطبقة الوسطى الذين يُسبحون بحمدها رافعين إياها الى السماء وعلى الاشتراكيين الذين يصبّون عليها لعنات الجحيم.
العجيب، ان ماركس لم يزود دفاتره السبعة بعنوان شامل, والاسم الذي تعرف به المسودة اليوم هو مركب من اشارة مختلفة وردت في مراسلات ماركس, اذ فكر اولا بعنوان (نقد المقولات الاقتصادية) ثم اختار (نقد الاقتصاد السياسي).
ان (الغروندريسة) فريدة في نوعها، فهي اهم انجازات ماركس إنها تجيء ككشف حقيقي يعرفنا بمختبر ماركس الاقتصادي, إنها سجل لذهن ماركس اثناء العمل، وكيف تلمس طريقه، اذ يعالج القضايا الجوهرية للنظرية الاقتصادية.
وتلك هي أثمن سمات (الغروندريسة).
د, زيد بن محمد الرماني
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عضو الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved