ترى ما الذي ستفعله لو انسحبت من عيونك الالوان لتشاهد العالم اسود وابيض كما قد رأيت عندما تختفي الالوان عن شاشة التلفزيون؟ وسقطت دون رجعة في عالم يخلو من بهجة الالوان؟
حدثتكم يوم أمس الاول عن الرجل المولج مستشفى شهار للامراض العصبية ولم تكن تظهر عليه اي من اعراض الجنون واشرت عند النهاية انه فتح الستارة عن عقل خرمه الجنون رغم ان الرجل كان يتصف بالذكاء والحكمة والمنطق والقدرة الكبيرة على السرد بشكل لا يسمح لك بالشك في كل ما يقوله فكل كلمة ينطق بها توحي بصدق الاولياء والصالحين, يمكن ان اشبه هذا النوع من الجنون بالنملة البيضاء (الارضة) تترك شكل الخشب الخارجي لماعا ونظيفا، بينما تنهب المتن حتى تأتي لحظة وتضع اصبعك على الخشب ينهار كل شيء ما زلت حتى هذه اللحظة اتمنى انني لم اضع اصبعي على عقل ذلك الرجل ولم اقترب من دماغه اثناء نشاطه، اثناء اعادة تركيب الماضي, ولكن وبكل صراحة جريت وراء النص الذي اخذ ينفتح امامي بمزيج من العواطف الانسانية المشوشة، لقد سمح لي ان اطل من ثقب مظلم يتيح حياة رمادية كأنما صورت بالالوان الابيض والرمادي والاسود عالم يخلو من بهجة الالوان كالتلفزيون القديم, فكل لحظة تبقى في هذا العالم يتصاعد الحزن في قلبك وتصبح في وضع متعاطف بطريقة لا تمنحك الفرصة لاستقبال العالم الذي ينفتح امامك بصدق وموضوعية حتى يعمل عقلك بطريقته النقدية الصحيحة, هذا بالضبط ما جرى لي وأنا استقبل كلامه والمشكلة انني في البداية اخفيت سر الرجل عن كل الشلة والاصدقاء حسب اتفاقي معه على اساس ان الرجل قرر ان يبوح لي وحدي لانه على حد قوله شعر بأني متعاطف معه وربما ساعدته بصفتي من الرياض وربما اكون على اتصال بجهات عليا، لانه كما قال سعى لتوصيل صوته لكل المسئولين في الرياض, ولكن زملاءه الذين حاكوا له وادخلوه المستشفى كانوا حتى ذلك الوقت يمنعون اي اتصال بينه وبين المسئولين في الرياض وكان احد الاسباب لاطلاعي على السر أنني يمكن ان انقذ حياته من هذا الجحيم الذي يعيش فيه، رغم ان الجحيم الحقيقي لم يكن في عنبر الجنون هذا وانما في حديثه عن زوجته واشتراكها الوسخ مع اعدائه لتدمير حياته وهي ابنة عمه لزم وعاشت معه منذ الطفولة في بيت واحد لم يفترق عنها الا عندما كان طالبا في كلية الشرطة بالرياض.
استمر يقص علي قصته قرابة ثلاثة ايام متتالية كان يمدها في كل الاتجاهات وفي كل يوم كان يستحلفني الا ابوح بالسر لأحد أبدا الا عندما يأذن لي بذلك وفي الحقيقة لا يمكن اصلا لأحد ان يبوح بمثل تلك القصة لانها اصبحت عرضا مفصلا لحياة قذرة، كان مزاجه يتقلب ببراعة في داخل القصة في بعض الاحيان يضحك بسخرية واخرى يضحك بمرح طفولي وقد يختنق ثم يعود للهدوء,, حشد كبير من العواطف المتضافرة تشق طريقها في فمه ووجدانه فتشعر انها تنطوي على سخاء غير مألوف فلا ترى وجهه ولا المكان الذي تتدفق فيه قصته وإنما تنظر الى العالم الذي يبسطه امامك فتتحرك معه من جدة الى الرياض الى مكة ومن غرفة النوم الى المجلس ومن مكتبه في شرطة مكة الى عنابر المرضى في بعض المستشفيات الكبرى التي مرَّ عليها، والمتآمرون يقودونه ليوقعوا به في هذا العنبر المزدحم.
لم يسمح لي بطرح الاسئلة فقد كان ضافيا لدرجة ان هناك تفاصيل لا يمكن لانسان متزن ان يتذكرها او يبنيها محشورة بنظام متجانس مع اصل النص فهو يتعاطى مع تفاصيل القصة دون احساس عميق بالمهانة فقد كانت الشفقة هي تقواه الاخيرة التي يلجأ لها كلما شعر بأني بدأت اتشوش من سماع القصة ولم اكتشف انه لا يريد مني اي عاطفة تجاهه وتجاه المأساة التي يقصها بخلاف الشفقة الا بعد فترة طويلة.
سأبدأ يوم الاربعاء القادم بتركه يتحدث اليكم مع بعض التدخلات الضرورية التي تحافظ على الاجواء التي انطلقت فيها القصة كما اؤكد على ان كل ما سيأتي من حديث عن زوجته قد اجريت عليه بعض التعديلات الضرورية حتى لا نخدش الحياء الانساني ولكني لن اترك القارىء دون اشارات تخدم خياله لتغطية كل الفراغات التي طرأت على النص.
الى اللقاء يوم الاربعاء القادم في الساعة التي تفتح فيها جريدة الجزيرة.
لمناقشة الكاتب أو شتمه
Yara2222* hotmail.com