لا يختلف اثنان على الدور الكبير والهام للتعليم بمستوياته وتخصصاته المختلفة في دعم العملية التنموية بشتى فروعها كما لا يختلف اثنان على ان التعليم يعتبر الطريق الوحيد الذي من خلاله تستطيع الأمم المحافظة على مرتكزاتها الثقافية والحضارية, ومن هذا المنطلق فقد حظي التعليم بدعم ومساندة مطلقة من قبل حكومة هذا البلد أيدها الله حتى وصلت طلائعه الى كل المناطق المأهولة بغض النظر عن المعوقات الجغرافية والمالية والادارية, ولقد انعكس هذا الاهتمام على طبيعة التفكير والأداء للمواطن السعودي حتى اضحى قادرا على التعامل مع معطيات الحضارة المادية وفق الاطار الشرعي المحدد مسبقا, إلا ان المتابع في الوقت الراهن يلاحظ ان التعليم بدأ يعاني كثيرا من انحسار الطفرة الاقتصادية التي عاشها الاقتصاد المحلي خلال فترة السبعينيات حيث ظهرت بوادر التقصير في تمويل بعض المتطلبات الرئيسة للعملية التعليمية, اصبحنا نسمع ونقرأ عن نقص في المقاعد الدراسية مما ادى الى بقاء بعض الطلاب بدون مقاعد أو الى اشتراك اكثر من طالب في المقعد الواحد أو نقص في وسائل التكييف مما قد يعرض ابناءنا وبناتنا للخطر أو نقص في السبورات التي لا يمكن تصور الفصل الدراسي بدونها, اصبحنا نسمع ونقرأ عن قيام بعض اولياء الأمور بالتبرع للمدارس ببعض وسائل التعليم وكأننا بذلك نخضع العملية التعليمية للعواطف التي قد لا تتوفر في كل الأمكنة والأزمنة, واذا كان مثل هذه المشاكل مسموعا في مدينة كالرياض مثلا فما هو الحال في القرى والهجر البعيدة التي لا تملك وسيلة اعلامية تنقل للمسؤول واقعها المر؟ اعتقد ان الأمر قد استفحل وبدرجة لم تعد قابلة للتأني في البحث عن الحلول لأننا نتعامل مع قضية هامة لها علاقة بكل المتغيرات التنموية الرئيسة.
يجب العمل على ايجاد الحلول الجذرية التي تكفل المحافظة على النوعية المتميزة لمخرجات التعليم من البنين والبنات خاصة نحن نواجه معدلات مرتفعة من النمو السكاني مما يفرض علينا المبادرة في مواجهة المشكلة قبل ان تستفحل وتتعمق جذورها, سوف نستعرض من خلال الأسطر التالية بعض البدائل المتاحة لمواجهة المشكلة وذلك على النحو التالي:
أولا: المحافظة على الواقع الحالي ومحاولة تغطية النقص تدريجيا وهنا اعتقد اننا نرتكب خطأ فادحا في حق أجيالنا الحاضرة والقادمة خاصة ونحن نعلم بأن التعليم لا يقبل الحلول الجزئية وخاصة ونحن نعلم بأن الطفرة الاقتصادية قد ولت الى غير رجعة مما يعني عدم قدرة القطاع العام على تحقيق التغطية التدريجية المطلوبة لمواكبة الزيادة السنوية في اعداد الطلبة والطالبات والتغذية المطلوبة لتغطية النقص المتراكم في الوسائل التعليمية المختلفة.
وبالتالي فإن الاستمرار على السياسة الحالية قد يؤدي الى مضاعفة المشكلة والى بروز حالات أشد غرابة من الحالات المشار اليها مسبقا مما قد يدفع بالمواطنين الى البحث عن البديل في القطاع الخاص والمدارس الخاصة التي ستجدها فرصة مواتية لانهاك المواطن بالرسوم الدراسية المبالغ فيها, واذا كنا نعلم بأن هنالك الكثير من المواطنين غير القادرين على تحمل الرسوم الدراسية التي يفرضها القطاع الخاص، فإننا قد نجد انفسنا في واقع مر يتميز فيه الغني القادر على الضعيف الصابر مما قد يضاعف من الفوارق الملحوظة في الدخل الحالي والمتوقع للأسر السعودية, وبالتالي فإن هذا البديل لا يمثل البديل الأمثل لمواجهة الواقع الحالي للتعليم مما يدفعنا الى البحث عن بدائل أخرى أكثر ملاءمة وفاعلية.
ثانيا: فرض رسوم رمزية على الطلبة والطالبات في المدارس الحكومية شريطة ان تنفق هذه المبالغ على تحسين الواقع وتأمين النقص في الوسائل التعليمية الضرورية, فعلى سبيل المثال يمكن الزام رب الأسرة بدفع 300 ريال عن الطالب الأول و200 ريال عن الطالب الثاني و100 ريال عن الطالب الثالث والبقية بالمجان بحيث يكون اقصى ما يتحمله الأب 500 ريال في الفصل الدراسي بغض النظر عن عدد الأبناء, وهنا اعتقد ان المساهمة الجزئية في تحمل التكاليف الدراسية قد يرشد من استهلاك الخدمة ويحسن من مستواها خاصة ونحن نعلم بأن القطاع العام الذي تحمل الكثير في السابق قد لا يكون قادرا في الوقت الحاضر على تأمين المبالغ اللازمة لتقديم خدمة تعليمية متميزة, كما اعتقد ان هذا الخيار ارحم بكثير من جشع ملاك المدارس الخاصة التي اضطر لها المواطن السعودي بعد ان عايش واقع التعليم الحكومي, وقد يقول قائل بأن التعليم خدمة يحتاجها الجميع بدون استثناء مما يعني تعرض الاسرة الفقيرة لزيادة في الأعباء المالية التي قد تحرم ابناءها من التعليم في حالة عجزها عن دفع الرسوم الدراسية, وهذا في الواقع اعتراض منطقي خاصة ونحن نعلم بأن حكومة هذا البلد لا تحبذ على الاطلاق تحميل المواطن أي اعباء مالية جديدة ما لم تكن ضرورية لاستمرار تقديم الخدمة, وعليه فإننا مطالبون بالبحث عن منفذ مناسب لاقتلاع المشكلة من جذورها دون ان يتعرض المواطن لزيادة في أعبائه المالية وهذا يقودنا الى البديل الثالث.
ثالثا: زيادة حصة الجهات المعنية عن التعليم في الموازنة العامة للدولة على حساب الجهات التي تقدم خدمات أقل أهمية وحساسية من التعليم, فيمكن على سبيل المثال خفض حصة وزارة المواصلات ووزارة التجارة ووزارة الشؤون البلدية والقروية لصالح الجهات المعنية بالتعليم على ان تتاح الفرصة للوزارات المذكورة بفرض رسوم جديدة على خدماتها المقدمة, فيمكن على سبيل المثال فرض رسوم على الطرق الطويلة لصالح خزينة وزارة المواصلات دون ان يكون في ذلك تقصد لفئة من فئات المجتمع حيث يمكن لمن يرغب تلافي هذه الرسوم عن طريق الحد من استهلاك الخدمة, وفي اعتقادي ان مثل هذا الاجراء يمكن ان يكون أكثر منطقية وفاعلية خاصة ونحن نعلم بأن النظرية الاقتصادية تقول بأن الضرائب أو الرسوم الأكثر عدلا هي تلك التي تفرض على السلع والخدمات التي تتمتع بمرونة طلب عالية, كما ان هذا الاجراء سيرشد من استهلاك الخدمة المقدمة وسيكفل عدالة اقتصادية بمقتضاها يتحمل مستهلك الخدمة تكلفة اكثر حيث سيتحمل مستخدم الطريق تكلفة صيانة وانشاء الطريق دون اضرار بالمواطن البعيد الذي لم ولن يستهلك الخدمة.
رابعا: تحمل القطاع العام تكاليف الدراسة في المدارس الخاصة حيث يمكن ان تتفق الجهات المعنية عن التعليم مع ملاك المدارس الخاصة على قيام المدارس الخاصة بتدريس الطلاب والطالبات على ان تقوم الجهات المعنية عن التعليم بدفع بعض أو كل الرسوم الدراسية, وفي هذا الخصوص اعتقد انه يمكن توفير مبالغ طائلة خاصة اذا علمنا ان التكلفة التقديرية للطالب الواحد في المدارس الحكومية حوالي ثمانية آلاف ريال سنويا مما يعني أنه بالامكان دفع نصف المبلغ أو يزيد قليلا للقطاع الخاص مقابل قيام الأخير بمهمة التدريس وفقا للضوابط التي تحددها الجهات الحكومية, وهنا نعتقد ان الفرق سيكون في الفاعلية والكفاءة الاقتصادية التي يتميز بها القطاع الخاص الذي يسعى الى تعظيم ربحه من خلال تدنيه التكلفة وتعظيم الايراد.
وأخيرا لا يمكن ان ندعي بأن البدائل المذكورة تمثل افضل البدائل ولكن المهم ان نعي المشكلة ونعي أهمية البحث عن البديل للواقع الحالي الذي لم يعد بلا شك مرضيا خاصة في هذه الفترة الزمنية التي يعاني فيها الاقتصاد السعودي من تغيرات هيكلية مزمنة, كما يجب ان نعي بأن السكوت على المشكلة لا يمثل خيارا مطروحا للتطبيق على الرغم من حرص بعض المسؤولين على التكتم على المشاكل وكأنهم بذلك يدعون مسؤوليتهم المباشرة عنها.
* أستاذ الاقتصاد المشارك بكلية الملك فهد الأمنية .