أصبحت الخصخصة، أو الخوصصة، ظاهرة عالمية تغزو الشعوب والدول، وتطال المؤسسات الاقتصادية في شتى المجتمعات، وتسارعت وتيرة هذه الظاهرة مع ما يسمى بالعولمة,, حتى أصبحت سمة العصر وحديث الناس,, وهي مجردة من تعقيداتها، تقوم على فلسفة إطلاق العنان للنزاعات والرغبات الخاصة - منفردة أو مجتمعة - في حركة وعمليات تبادل السلع والخدمات بين البشر، دون تدخل من الدولة إلا في حدود ما تمليه الضرورة ودواعي المصالح العليا للمجتمع.
وركبت الدول، الصغرى والكبرى، والنامية والأقل نموا، هذه الموجة,, وبات مقياس نجاح اقتصاديات هذه الدول في مدى البعد عن، أو الاقتراب من، هذا المسار, ونحن كمجتمع يؤثر ويتأثر بما يجري حوله، ولكن بوعي وهدوء، ومراعاة لخصوصيته وطبيعته، بدأ هذا المبدأ يتسلل تدريجيا لمؤسسات البلاد الاقتصادية العامة ذات الطبيعة الخدمية, وحصدت هذه التوجهات بوادر نجاحها، واستحسان الجمهور المستهلك لهذه الخدمات، مما جعل الدولة تعوّل على القطاع الخاص (الأهلي) للاضطلاع بالمزيد من هذه الأدوار في الشأن الاقتصادي, ولكن من الملاحظ أنه في خضم الجهود الحثيثة لإعادة ترتيب الشأن الاقتصادي يندر - إن لم ينعدم - الحديث والحوار عن خصخصة الشأن الاجتماعي الذي ما زالت الدولة تضطلع بنصيب وافر منه عبر تقديم تلك الخدمات من خلال مراكز ودور ومؤسسات اجتماعية تستفيد منها عدة شرائح محتاجة من المجتمع, وإذا كانت التجارة أثبتت أن القطاع العام أقل كفاءة في إدارة وتشغيل المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي فما هو الحال إذن، في المؤسسات الاجتماعية ذات الطابع الرعائي والتنموي؟ حيث يتطلب العمل في هذه الجوانب، بالإضافة إلى العلم والخبرة والدربة، عنصرا مهما في نجاحه، بل يكاد يكون أهم عناصر نجاحه، وهو الاحتساب,, إذ بافتقاده، أو افتقاره، تنعدم حيوية العمل الاجتماعي، وتتحول المؤسسات الاجتماعية إلى بؤر بيروقراطية جامدة، فاقدة الحركة، عديمة التفاعل مع قضايا المجتمع وهموم الناس، وتغتال فرص النجاح، ناهيك عن الإبداع والتطوير ومواكبة الاحتياجات الفعلية لذوي الحاجة,, فالعمل الاجتماعي بطبيعته لا يمكن قياس الأداء والكفاءة فيه بطريقة كمية تجدول مدخلاته ومخرجاته,, ليس هذا فحسب، بل هو عملية مستمرة له بداية ولكن قد لا تبدو له نهاية، خاصة وأنه يستهدف الأفراد والمجتمعات, وحتى النجاح من عدمه لا يبدو أثره في الحال، فرعاية يتيم أو حدث او معاق أو عاجز يحتاج إلى سنوات من العمل الدؤوب، والرعاية المؤسسية واللاحقة,, ومتى ما فقد العمل الاجتماعي مع هذه الفئات عنصر الاحتساب وإنكار الذات فقد غاب عنه أهم عناصر نجاحه.
وإذا كانت الدول بدأت في التحلل من عدد من الوظائف والمهام الاقتصادية بإيكالها إلى القطاع الخاص لقناعتها بكفاءته في الأداء الاقتصادي، فإن العمل الاجتماعي الحكومي أولى أن يوكل إلى القطاع الخيري التطوعي, ولا تتطلب خصخصة المؤسسات الاجتماعية الحكومية الجهد والإقناع الذي يبذل لخصخصة المناشط الاقتصادية، فديننا وخلقنا وتقاليدنا تشكل ينبوعا لا ينضب من حب بذل الخير والإيثار والحرص على البر والإحسان.
ولو تبنت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية برنامجا واضحا ومشجعا لخصخصة أدوارها ودورها ومؤسساتها ومراكزها الاجتماعية القائمة واسندتها إدارة وتشغيلا للجمعيات الخيرية المنتشرة في مختلف مناطق المملكة، واقتصر دور الوزارة على الإشراف والتوجيه والتمويل من الاعتمادات المخصصة لهذه المؤسسات في ميزانية الوزارة لأحدث ذلك نقلة نوعية في العمل الاجتماعي لا تقل في أثرها وتأثيرها وفاعليتها عن نتائج الخصخصة في الجوانب الاقتصادية.
د, يوسف بن أحمد العثيمين