Sunday 3rd October, 1999 G No. 9866جريدة الجزيرة الأحد 23 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9866


كتاب (هزائم المنتصرين) 1
السينما والرواية في (الهامس للحصان)
إبراهيم نصر الله

قبل أكثر من سنتين، تردد في أوساط السينما العالمية ان الممثل والمخرج روبرت ريدفورد قام بشراء حقوق رواية تلاقي نجاحا كبيرا بين الناطقين بالانجليزية، بل قيل ان فكرتها استهوته حتى قبل ان ينهيها الكاتب نيك إيفنس، ولم تكن هذه الرواية غير (الهامس للحصان) التي سجل حجم توزيعها عشرة ملايين نسخة, كان الثمن الذي دفعه ريدفورد بمساعدة من ديزني (ثلاثة ملايين دولار) رقما كبيرا، يضاهي بعض أهم حقوق تحويل الروايات الى أفلام، اذا ما تجاوزنا بعض ما حصل عليه بعض الروائيين عن روايات تشويقية، او روايات الخيال العلمي, لكن اللافت في الأمر كان ذلك السحر الذي يتعلق بموضوع الرواية، التي ترصد علاقة مرب للخيول بخيوله وكيفية تواصله معها عبر الهمس, وقد كان التقاط هذا الجانب الحميم في علاقة الإنسان بكائن عزيز كالحصان إشارة أولى ومهمة لما سيكون عليه الفيلم الذي بتنا ننتظره، خاصة وأن روبرت ريدفورد ليس أي ممثل، كما ان تجربته في عالم الإخراج كبيرة، ولعله مع كلينت إيستوود أهم من أخرج عددا كبيرا من الأفلام دون اخفاقات تذكر، مثل تلك التي عانى منها كيفن كوستنر في فيلمه الثاني كمخرج (ساعي البريد) بعد فيلمه الكبير (يرقص مع الذئاب) او تجربة ميل جيبسون المتواضعة الأولى (رجل بلا وجه) والتي خرج منها محبطا كمخرج قبل ان يغامر ويقدم فيلما كاسحا (قلب شجاع).
ريدفورد عرف النجاح كمخرج منذ البداية حين قدم عام 1980 فيلما مغايرا وحميما وخارجا على النمط الهوليوودي (أناس عاديون) واستحق عليه يومها جائزة أوسكار أفضل مخرج وجائزة أفضل فيلم, ثم أعقبه بأفلام كثيرة كان أبرزها (النهر يجري عبره) و(استعراضنا) الذي أهله لأن يكون احد المخرجين المرشحين لنيل الأوسكار مرة ثانية عام 1994 إضافة الى أفلام اخرى قام بإخراجها.
ولعل ما يلفت الانتباه في اختيار ريدفورد لرواية (الهامس للحصان) هو ذلك التوجه الذي بدأه هذا الممثل الناجح على المستوى الحياتي، وعلى مستوى التعامل مع السينما عبر معايير مغايرة بدأت تترسخ وتعطي ثمارا كبيرة بانتاجه وتشجيعه انتاج أفلام مستقلة، أي أفلام خارجة على قانون مدينة السينما (هوليوود) وقد ظل يعمل دون كلل لتحسين صورة هذه السينما التي ارتبط اسمها بالضعف والسوء وعدم القدرة على تقديم ما يبهر المشاهد مقارنة بسينما الانتاج الضخم، مما دفعه لتأسيس (معهد صندانس) بهدف تحسين نوعية هذه الأفلام وإعداد المزيد من السينمائيين المستقلين، وقد كان ذلك أحد العوامل المهمة التي دفعت عددا من الأفلام المستقلة لاحتلال مركز الصدارة في الترشيحات لجائزة الأوسكار كما حدث عام 1997، لكن شركات الانتاج الكبرى بدأت تأخذ احتياطاتها في هذا المجال، مما دفعها لشراء بعض شركات الانتاج المستقلة، إما لاحتوائها وإذابتها، وإما لتوجيهها وجهة غير تلك التي وجدت من أجلها, فهوليوود على حد تعبير ريدفورد نفسه ( لا تريد أي منافسة خارجية), وهكذا راح يؤسس فروعا لمعهد صندانس ويفتتح صالات سينمائية خاصة لكي يتيح للناس ان يشاهدوا ويتعرفوا على السينما كثقافة، وليس كتسلية، وتوج عمله بإنشاء قناة تلفزيونية خاصة بهذه الأفلام عبر الكيبل، وذلك كله لإتاحة الوقت الكافي لرؤية هذه الأفلام ومناقشتها (بعيدا عن ضغوط السوق السينمائية).
الهامس للحصان
في أجواء باردة في مكاتب مغلقة لا يكاد المرء يعرف أين موقعها وفي سهول وغابات يغطيها الثلج، تبدأ المشاهد بالتقاطع وفق أسلوب مدروس، ينذر بما هو قادم، ووسط ذلك الحس المتنامي لدى المشاهد بأن المكانين يتبادلان برودتهما وثلجيتهما، يقترب مشهد الأم (آن ماكلين) تقوم بالدور الممثلة كريستين سكوت توماس، التي لفتت الأنظار في فيلم (المريض الانجليزي) يقترب مشهد الأم هذا ويتقاطع مع ابنتها على ظهر حصانها برفقة إحدى صديقاتها، وهما تبوحان ببعض أسرارهما الصغيرة الحميمة.
وينتهي المشهد بقوة ذلك التوتر المحموم للكاميرا برنين هاتف، يسبقه حادث مروع يؤدي الى وفاة صديقة الابنة، وإصابة الابنة نفسها مع حصانها إصابة تؤدي الى بتر قدمها اليمنى، بعد ان تداهمها شاحنة وجد السائق فيها نفسه وجها لوجه مع خيول تنزلق على ثلج منحدر باتجاه منتصف الشارع, يصور ريدفورد الحادث بطريقة فذة، قوية ومؤثرة، حتى ليكاد المرء يشعر ان ليس في الأمر أي خدعة سينمائية على الإطلاق.
من هنا يبدأ الفيلم ويستمر, وإن كان ريدفورد يتناسى تماما أي أمر يتعلق بالفتاة التي ماتت (صديقة الابنة) كما لو ان السينما لا تهتم إلا بما هو داخل الكادر، أو يملك قوة البقاء فيه!!
يتحرك الفيلم بعد ذلك في اتجاه معاكس، كما لو ان الحادثة هي القوة الطاردة التي ستطوح بكل هذا البرود الى عالم آخر بديل.
يبدأ الفيلم بالبوح ببعض توجهاته، حين ترفض الأم إعدام حصان ابنتها المصاب ب(حقنة رحمة) لأنها تعرف مدى تعلق ابنتها بهذا الحصان، وهذا التعلق الفطري بالحسان الطبيعة هو في الحقيقة ما يوازي تعلق ريدفورد الواعي بالعالم من حوله، الذي يرفعه الى مرتبة المصغي الناجح لصوت الطبيعة (الخيول) والمتوحد معها الى حد الانتماء المطلق!! كما يريد مشروع الفيلم أن يقول.
حين تتصل الأم بالهامس لتقول له ان ابنتها تعاني من مشاكل مع حصانها، يكون رده بسيطا وعميقا: إنني اعالج الخيول التي تعاني من مشاكل مع أصحابها.
في هذه الإضاءة يتبدى بوضوح خيار (توم بوكر روبرت ريدفورد) الذي يرفض عرض الأم للنزول الى نيويورك من مونتانا، لعلاج الحصان، لأن بوكر نفسه، يبدو هنا، وبشكل من الأشكال، وكما سيظهر لنا فيما بعد انه حصان مصاب في داخله بطريقة من الطرق، وان المكان اللائق بالحصان دائما هو ارضه الأولى: السهول الفسيحة الدافئة وذلك الريف الذي يلفظ آخر أنفاسه، متشبثا بقيم الشجاعة والشرف بعد ان اجتاحت قيم الآلة ورؤوس الأموال البشر والطبيعة معاً.
حين تضطر الأم اخيرا للخروج من شرنقتها (نيويورك) ومن تبعات عملها (رئيسة تحرير) ولو لفترة بسيطة، للذهاب الى مونتانا، في ظل الضغط المتواصل الذي ترزح تحته بسبب تردي الحالة النفسية لابنتها، تكون الأم في الحقيقة، نموذجا آخر لحصان جريح او مهرة مصابة في داخلها يلزمها علاج أيضا، فالعلاقة الأسرية، تبدو منهارة ويضاعف انهيارها ذلك الحس بالذنب، ربما بسبب بتر ساق الابنة، رغم ان ريدفورد يقدمها رغم البرود النسبي في ملامحها امرأة تملك إرادة القتال بما لا يقاس مقارنة بزوجها.
ستة آلاف كيلومتر تقطعها الأم وابنتها للوصول الى مزرعة بوكر، ومعهما الحصان في عربة مخصصة لنقله، لكن وقبل الوصول، بل بمجرد الخروج من نيويورك، يبدأ ريدفورد (المخرج) برسم صورة مغايرة للعالم الذي تخلفانه وراءهما (آن وابنتها)، يتلاشى الثلج تماما، وتمتد السهول واسعة تحت شمس دافئة، ويعطي تصويره من الجو لهذه السهول، وتليها الجبال، حسا بالانعتاق والتحليق، وهو يتفنن هنا برسم مشاهده، وليس ذلك غريبا عليه، هو الذي مارس الرسم، وأوشك ان يتفرغ لهذا الفن ذات يوم، والفيلم بهذا من الأفلام التي لا يمكن ان تشاهد إلا في السينما، لأن الطبيعة تقوم بدور موازٍ في البطولة، بل إنها البطل، الغاية والهدف، فإذا كان الممثلون يغيبون في بعض المشاهد، ويحضرون في سواها، فإنها حاضرة في الحالتين: الغياب والحضور, وهي أخيرا ذلك الشيء الذي لا يملكون فرارا من مواجهته، كما لو ان الطبيعة هنا نوع من المصير، ومصب للأحداث.
عالم مغاير يبدأ بالتشكل امام عيني آن ماكلين، عالم تبدأ العلاقة المتبادلة معه حذرة، فيها من الحاجة اليه بقدر ما فيها من الحاجة للانتهاء منه ومغادرته, وينطبق الأمر على (الهامس للحصان) فبالقدر الذي يريد فيه الانتهاء من مهمته للخلاص من كائنين غريبين يقطعان عليه وحدته وحلوله المطلق بما حوله من طبيعة وكائنات، يبدو أيضا منجذبا لآن ولمعاناة ابنتها وللحصان، فكأن الإنسان هنا في جوهره غير قادر على ان يعيش حالة ما، مهما كانت نبيلة، دون ان يتعرض ويستجيب ولو الى حد ما لإغواء التجربة، حتى لكأن تلك العلاقة الصوفية بين بوكر وخيوله، وبينه وبين ما حوله من أماكن، كانت بحاجة للاختبار حتى يتأكد مدى عمقها, فالتجربة في النهاية هي الاختبار وليس الخيار في مطلق سراحه, لأن في التجربة عظمة الإيمان او وهنه بعد كل اختيار.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved