الغرب يتذكر تراثه العربي (1) د, حسن البنا عزالدين |
قبل حضوري مباشرة الى الرياض منذ اربع سنوات كنت في جامعة انديانا - بلومنجتون لانهي ترجمتي لكتاب بعنوان (ادب السياسة وسياسة الادب، التفسير الطقوسي لقصيدة المدح في الشعر العربي القديم) من تأليف الدكتورة سوزان ستيتكيفيتش وقد شاركتني المؤلفة في الترجمة ونشر الكتاب في الهيئة المصرية العامة للكتاب (1998)، مع دراسة مطولة لي في مقدمتي للكتاب عن الشعر الجاهلي والبحث الادبي المعاصر وذلك تمهيدا لرؤية الدور النقدي لمدرسة شيكاغو التي يعد ياروسلاف ستيتكيفيتش رائدها الاول في دراسة الادب العربي القديم بخاصة, في هذه الدراسة المطولة حاولت ان اوضح جوانب للوعي الاستشراقي الجديد في دراسة الادب العربي والاسلام، ذلك الوعي الذي بدأ بالاعتراف بتعصب الاوروبيين في نظرتهم الى العرب والاسلام وذلك حتى بدأت الحركة الاستشراقية بالمعنى الاكاديمي الحديث في نهاية القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر حين شرعت تتغير تغيرا جوهريا في مدخل اصحابها الى دراسة التراث العربي والاسلامي سواء المتصل بهم في الماضي او المعاصر لهم في الحاضر.
ولن اقوم هنا بمراجعة (ادب السياسة) ولكني اردت ان اقول ان هذا الكتاب يهتم اساسا بمسح تهمة النفاق والتزلف عن قصيدة المدح العربية القديمة ويفسرها في ضوء انماط انسانية عميقة في ابعادها الانثروبولوجية، وفي ضوء الدرس للادب المقارن المعاصر في الغرب، ولا يحصرها في دائرة الدراسات الاستشراقية التقليدية التي لا تخرج عن معرفة ما عند الاخر للعلم بالشيء, انها على العكس من ذلك، تضيء لنا تراثنا وتنفي عنه بعض الجوانب السلبية التي قد نلصقها نحن به.
وقبل حضوري الى الرياض مباشرة وقعت عيني في مكتبة الدكتورة سوزان الخاصة على نسختين من كتاب بالانجليزية عن الدور العربي في التاريخ الادبي للقرون الوسطى تراث منسي لاستاذة امريكية اخرى اسمها ماريا روزا مونيكال (من اصل كوبي كما يبدو من مقدمتها للكتاب) متخصصة في دراسات اللغات الرومانثية في جامعة بنسلفانيا واستاذة زائرة في جامعة بيل, وقد صدر الكتاب عن مطبعة جامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا 1987م, نظرت في الكتاب فوجدته مهماً للغاية ويسير في الاتجاه الايجابي نفسه وان كان ليس من مدرسة استشراقية تقليدية او غير تقليدية فاستأذنت في استعارة احدى النسختين وعزمت على ترجمة هذا الكتاب عندما يستقر الحال بي في الرياض، على الرغم من تهيبي لصعوبة لغته الانجليزية وبعده عن تخصصي العلمي الدقيق ولذلك كانت سعادتي مضاعفة لاني علمت على الفور ان الاخ والصديق العزيز الدكتور صالح الغامدي (رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة الملك سعود، وقد تخرج ايضا في جامعة انديانا) يقوم بترجمة (الدور العربي), وحمدت الله على ان وجدت زميلا فكر مثلي في ترجمة الكتاب نفسه لان هذا معناه ادراك حقيقي لقيمة الكتاب للمكتبة العربية، وقد صدرت اخيرا ترجمة الغامدي عن قسم النشر العلمي بجامعة الملك سعود (1419/1999) وحق له ولي ان اكتب عنه، كما انني سبق ان قرأت بعض فصوله في اثناء الترجمة التي حرص صاحبها على استشارة كل احد مهتم بعمله, بل ان المؤلفة نفسها كتبت تقديما مخصوصا للطبعة العربية هذه، وهو تقديم يكتسب اهميته لانه كتب بعد عشر سنوات من صدور الطبعة الانجليزية ولكن علينا ان نضيف هنا ذكرا لكتاب اخر يندرج في السياق نفسه، سياق (الماضي المشترك بين العرب والغرب) وهو كتاب يحمل هذا العنوان نفسه مع عنوان فرعي هو (اصول الاداب الشعبية الغربية) للاستاذ أ,ل,رانيلا، استاذ الفولكلور في جامعة جوجنهايم، وترجمة استاذتنا الدكتور نبيلة ابراهيم (نشر في عالم المعرفة، الكويت، يناير 1999), فهذا الكتاب ينضم الى الكتابين السابقين ويحتاج الى اكثر من عرض ومراجعة ولعلنا نقوم بشيء من هذا بعد الفراغ من كتاب ( الدور العربي).
قدّم الغامدي ترجمته بمقدمة اوضح فيها الاسباب التي دفعته الى ترجمة الكتاب، وهي اسباب تجعل كل قارىء مهتم لايندم على اي جهد ينفقه في قراءة الكتاب نفسه, من هذه الاسباب قيام الكتاب نفسه على اطروحة تقر بأن تاريخ الادب الاوروبي الوسيط (او القروسطي) استبعد الحضور العربي الاسلامي في اوروبا والدور الادبي والفكري الذي مارسه على هذا التاريخ ولا ينحصر مفهوم التاريخ الادبي هنا في دراسة الادب بالمفهوم الضيق, فكما تقول المؤلفة نفسها (ص 89 -90),,,, فلابد في الواقع من ان يشكل التاريخ الفكري وتقلباته ومنعطفاته عوامل حاسمة في البيئة العامة التي انتجت وتُقبّلت فيها النصوص الادبية والمؤلفة ترد هنا على فكرة ان التأثير العربي الناتج عن طريق ترجمة النصوص المهمة قد كان محصورا في مجالات غير المجالات الادبية، لان مثل هذا الموقف يتكئ على وجهة نظر متنافية مع الزمن حول ما يشكل الادب، ويفترض وجود فصل عشوائي بين قطاعات مختلفة من الجماعات الفكرية والفنية (ص 90).
وتستطرد المؤلفة مع ذلك الى تساؤل حول السبب الذي من اجله لم يصل الى الاوروبيين في القرون الوسطى الا القليل من ترجمات النصوص الادبية الحقة، مثل الشعر وهي تقصد هنا الشعر العربي من الاندلس بصفة خاصة, فهل كان المجال الادبي مقاوما او غير قابل للتأثير في الاخرين على نحو ما حدث مع المجالات الفكرية والفلسفية الاخرى التي ترجمها الاوروبيون عن العرب في تلك الحقبة؟ وترى المؤلفة ان ثمة جوانب عديدة للظواهر الفنية والادبية لا تتطلب ترجمات مباشرة او صحة مقررة لكي تصبح جزءا من ثقافة مختلفة وربما يذكرنا هذا بموقف المترجمين العرب انفسهم من الشعر اليوناني في تلك الحقبة نفسها, فلم يصل الينا منهم شعر يوناني مترجم مثل الالياذة والاوديسة اللتين تحدث عنهما ارسطو في (فن الشعر) الذي ترجموه بشيء من الصعوبة لانه يتناول انواعا ادبية مثل الملحمة والمسرحية لم تكن معروفة لدى العرب والمسلمين انذاك ولكن المؤلفة تضيف سببا اخر غير عدم الالفة التي اشرنا اليها وهو نظرة الترجمين الاوروبيين للتراث العربي الوسيط الى الادب الخيالي الاوروبي نفسه المنتج باللغة الدارجة في اوروبا بما فيه العالم الذي كان تحت السيطرة العربية واللاتينية على السواء, وهذا على العكس مما يقوم به الدارسون الاوربيون المعاصرون ومنذ القرن التاسع عشر في ترجمة الادب نصوص العربي القديم والحديث على السواء, وبالطبع لا يعني هذا ان المترجمين في العصر الوسيط كانوا يستمتعون بالادب العربي والاغاني العربية في اوقات فراغهم من ترجمة النصوص الاخرى التي كان الطلب عليها شديدا.
اما لماذا تم استبعاد الدور العربي وتهميشه في اوروبا في العصور الوسطى فهذا ما تتناوله المؤلفة في الفصل الاول (ص ص 13 - 48) بعنوان (اسطورة الغربية في علم التاريخ الادبي القروسطي), ان هذا العنوان للفصل الاول يبرر عبارة (تراث منسي) في العنوان الفرعي للكتاب, فهو تراث منسي في ذاكرة الاوروبيين وهو تراث للاوروبيين اي منسوب اليهم وهنا تكون اوروبا عربية واوروبية في الوقت نفسه, ان فصل الاخر عن الذات هو الذي يؤدي الى الوحشة والتعصب وهو فصل لم يعد له مبرر في الوقت الحاضر وان كان ينوء بتراث ثقيل من النسيان والتجاهل والخوف والشعور بالتهديد, من هنا تأتي اهمية هذا الكتاب في (اعادة النظر في الخلفية (التاريخية) في الفصل الثاني (ص ص 49 - 106) وفيه تتبنى المؤلفة مفهوما اوسع واشمل لتاريخ اوروبا الادبي يأخذ في حسبانه النصوص الادبية العربية التي اهملها كثير من الدارسين قبلها بحجة انها ليست اوروبية كما يقول المترجم في مقدمة.
ولعلنا نري ان الكتاب ينقسم الى قسمين اساسين, ينتظم الاول في الفصلين السابقين ويستوعب الاخر الفصول الاربعة الباقية في الكتاب، وهي على التوالي عن قضية الحب الرفيع، والموشحات وايطاليا وقلق التأثير بالتركيز على دانتي واخيرا فصل عن قراء اخرين (مثل بوكاشيو) وقراءات اخرى تطرحها المؤلفة للتراث العربي المنسي لاوروبا, وفي هذا الجزء تحاول المؤلفة الكشف عن بعض وجهات النظر المختلفة حول الادب في العصر القروسطي التي يمكن ان تبرز لو اعيد النظر في تلك المفاهيم الشائعة في الغرب عن الغربية Westerness, ويرى الغامدي في مقدمته ان مما دفعه كذلك الى ترجمة هذا العمل هو التحليل المقارن الذي تقوم به المؤلفة في هذه الفصول الاخيرة لنصوص عربية (صقلية واندلسية) شعرية ونثرية ونصوص اخرى كتبت بلغات اوروبية متعددة ويعتقد الغامدي ان من شأن ترجمة هذه الكتاب ان تضيف لبنة جديدة في جدار الدرس الادبي المقارن في العالم العربي, وهذا قريب مما ذكرناه اعلاه عن كتاب (ادب السياسية) الذي قمنا بترجمته مؤخرا, ان اعمالا مثل هذه تحطم جدارا نفسيا في علاقتنا بالاخر وتضيف لبنة جديدة حقا في جدار وعينا بذاتنا.
وليست المسألة بمحصورة في دراسة الادب او الادب المقارن بل هي تتصل بكل ابعاد الحضور العربي الاسلامي في اوروبا في القرون الوسطى سياسيا ودينيا وثقافيا وحضاريا، كما يقول الغامدي في مقدمته, ولذلك تظل الحاجة الى الحوار مع الاخر المتمثل في اعمال جادة بعيدة عن التعصب وسوء الفهم مثل التي نشير اليها هنا ملحة، وهي جديرة باثراء وعينا بذواتنا وطرح الشعور بالتبعية بكل انواعها ذلك الشعور الذي يثقل كاهل الكثيرين وقد لا يكون مسؤولا عنه سوى الدوران حول انفسنا في دوائر نصنعها نحن بانفسنا ونتوهم ان الاخر هو الذي صنعها لنا وحصرنا فيها.
يتبع
وقد نرى ثمة اهمية قصوى في لفت النظر الى وعي المؤلفة نفسها الى شيء من هذا في تمهيدها للطبعة الاولى وفي تقديمها للطبعة العربية, توطىء المؤلفة تمهيدها كعادتها بقول مقتبس من اخرين, وهنا عن كلمة تروبار ربما جاءت من كلمة طَرِبَ العربية, تنقل المؤلفة عن احد دارسي شعر التروبادور هو جينروي المتخصص في الدراسات الرومانثية رأي المتخصصين مثله في اقتراح ربيرا بأنه رأي لا يستحق النقاش، لانه لا يمكن ان يقنع احدا (ص 5) وترى المؤلفة ان موقف جينروي هذا ليس استثناء بل هو القاعدة وكانت المؤلفة نفسها عندما بدأت رحلتها مع فعل طرب العربي في اثناء حضورها فصلا في تعلم اللغة العربية بقصد التسلية الى حد كبير وعلمت ان ثمة اقتراحات او ظنونا قد تثار حول امكانية ان تكون كلمة تروبادور مشتقة من العربية, لقد علمت كذلك ان هذه الاقتراحات والظنون يجب ان تظل مخفية الى حد كبير, وقد تراءى لها منذ البداية ان الاصل العربي للكلمة الاوروبية لا يبدو مقبولا ولكن استاذها شجعها على بحث الامر من جديد وتقديم توكيد او نفي له, وبذلك قضت سنوات في تمحيص اللغز واجزائه كاشفة النقاب عن مالك بحث تأثيلي استحوذ عليها بعد ان جذب اليه عددا من مؤرخي اللغة والادب قبلها منذ منتصف القرن التاسع عشر الى ما بعد الربع الاول من القرن العشرين, وفي هذه الرحلة عثرت على اقتراح ربيرا المشار اليه اعلاه، وربطت بينه وبين الفعل طرب الذي كانت قد درسته في فصل اللغة العربية.
وقد التفتت المؤلفة في اثناء بحثها لمسألة اكثر خطورة فلم تعد المسألة هي: هل جاءت هذه الكلمة او تلك الصورة من لغة الاندلس او من شعرها او من فلسفتها, بل لماذا عوملت مناقشات مثل هذه الاحتمالات بطريقة تختلف عن غيرها من المناقشات الاخرى المتعلقة بالعصر القروسطي وبيئته الثقافية - هذا اذا افترضنا ان مثل هذه المناقشات حول الاصل العربي قد حدثت بالفعل, تقول المؤلفة هنا: وهذا الكتاب هو نتيجة التحري الذي قمت به حول هذه المسألة (ص 6).
في التمهيد نفسه تشخص المؤلفة بعض العوائق التي حالت دون تقبل المتخصصين في الدراسات الرومانثية الحقائق الواضحة او النظريات الغضة التي تعرضها اغلب الدراسات حول مسألة التأثير العربي في اصول شعر الحب العامي الرومانثي (التروبادور), فالاوروبيون يجدون، كما تقول المؤلفة (ص6)، مشقة كبيرة في الإقرار باحتمال ان يكونوا - بطريقة او أخرى - مدينين بصورة بالغة للعالم العربي، او ان العرب كانوا عاملا رئيسا في صنع اوروبا القروسطية، كذلك تكتشف المؤلفة ان تلك الدراسات تشترك في عدم اصرارها على سبر ملاحظاتها سبرا إضافيا، بل تصمم على فرضياتها الاولية التي تهمل الجانب العربي في المسألة, بل ان المؤلفة ازدادت قناعة بأن الدارسين الذين اظهروا غمامات الغرب في هذا الشأن لم يكونوا، بإثبات فرضية التأثير العربي، أقل افتقادا للبصيرة من معظم زملائهم, ذلك ان قوى (العقل) و(الحقيقة) في هذا المجال، كما بدت لكثير من الدارسين على الاقل، لم تنجح في تغيير الفرضيات التي تشكل صورة القرون الوسطى في اذهان اغلب المتخصصين في الدراسات القروسطية، فقوة الصورة الشائعة تظل اعظم بكثير، ونادرا ما تسمح بقبول دراسات معينة او بتقنين نصوص معينة، او بتكامل شذرات معينة من المعرفة في جسد معلوماتنا العملي حول العصر.
ولذلك تعتمد المؤلفة في دراستها على فرضية، وتنطلق من قناعة، مؤداها ان اي دراسة مخصوصة لأي نظرية من النظريات التي توصف (بالعربية) لا تستطيع ان تنجح طالما ظلت اكثر الصور شيوعا لدينا حول العصر القروسطي عدائية، كما هي عليه الآن، تجاه مثل هذه الافكار حول هذا التأثير والتفاعل, ولذلك فإن المؤلفة تضع في حسبانها بشكل اساسي سبر الملاحظة التالية، التي لا تزال مجرد ملاحظة، وهي على حد تعبير المؤلفة (ص7): إن التراث البحثي الاوروبي ينطوي على نظرة مسبقة لماضيه القروسطي وعلى مجموعة من الفرضيات حوله، هي ابعد من ان تفضي الى عد عناصره السامية فاعلة ومركزية, فالهدف هو استكشاف الاسباب التي أدت الى ظهور وجهات النظر هذه واستكشاف اشكالها، وكذلك مواطن الضعف والقصور فيها، وتبيان وجهات النظر المختلفة التي يمكن ان تظهر للعصر لو اننا قادرون على تجريد انفسنا من بعض المفاهيم المحتفى بها (للغربية) Westerness، تلك المفاهيم التي نعض عليها بالنواجذ في بعض الأحيان , اما الجزء الآخر من الكتاب فقد اشرنا اعلاه الى قيمته.
وتقر المؤلفة بأنها لم تكتشف اكتشافات عظيمة لصلات لا ريب فيها, ولم تشيّد (أدلة) جديدة، ولم تعثر على مخطوطات مفقودة من قبل تبين مديونية الغرب للثقافة العربية القروسطية, ولا هي تروي حقائق لم تكن معروفة او لم يستشهد كثير من الدارسين بها من قبل, وانما تحاول ان تبين السبب الذي من أجله بدت نصوص الآخرين (العرب والمسلمين) وحقائقهم واكتشافاتهم زهيدة او مزهودا فيها في نظر عدد كبير من مؤرخي الأدب الرومانثي، وان ترسم منظورا قد يجعلها مهمة وقد ينتشلها من غياهب الاهمال والنسيان التي ألقيت فيها منذ أمد بعيد.
ان تذكر الغرب لتراثه العربي، إذا جاز التعبير وهو يجوز حقا، يحتاج الى اكثر من وقفة، كما اننا في حاجة ملحة الى استكشاف (الدور العربي) في أكثر من مقالة، فإلي لقاء.
|
|
|