Sunday 3rd October, 1999 G No. 9866جريدة الجزيرة الأحد 23 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9866


مساقات
المساق 131
أطراف من سيرة علي الدميني 1
الدكتور/ عبدالله الفيفي*

,,, وما يزال صاحب الجرجاني يقص علينا حواره حول شعرية علي الدميني ونثريته، وقد عبّر عن أن مصدر انجذابه الى تجربته، يكمن في التجريب المتواصل الذي يمنحه الدميني ساحة الأدب عبر سيرته الشعرية والنثرية، في دأب وإصرار.
ثم شرع يروي أطرافاً من حوارية إذاعية كان قد أجراها حول الشاعر، إذ أفضى الى الحديث عن توازن الدميني بين دأبه على النشر وتريّثه، حينما قال إن الدميني قد اشار في مفتتح رياح المواقع مجموعته الشعرية الأولى الى تردده في إصدارها، لولا إغراء سعد الحميدين بما سبقه إليه من نشر:
ها أنا ذا أخيراً اجترح الشجاعة
وتتملكني الرغبة لأخرج الجسد المسجَّى من منزلي
إلى قبور المطابع
ومخازن الباعة.
يا للشجاعة المتأخرة،
ويا للإثم المبّكر!!
فهو تريّث مقصود، يحسب له، ويحسد عليه، من كثير من متسرعي النشر.
أما ابرز علامات رياح المواقع ، فلعلها سعي الشاعر إلى المؤالفة بين أشكال إيقاعية مختلفة، ويبدو أن هذا كان هاجس المرحلة في تلك الفترة من حياتنا الشعرية, فهناك الأبيات التناظرية ذات البحر والتقفية، إلى جانب الشكل التفعيلي في القصيدة الواحدة، كما تبرز ظاهرة التناصّ بدرجة مكثفة، حيث تتماهى نصوص شعرية ونثرية، قديمة وحديثة، وبعضها فصيح وآخر عاميّ,, وهنا نشير الى عليّاً الدميني شاعر عامي قبل أن يكون شاعراً فصيحاً، وهو يوظف في أعماله هذا الشعر، سواء كان له أو لغيره.
بل إنه في ديوانه، الأول يزاوج بين الشعريّ والتشكيليّ أيضاً، وذلك من خلال لوحات تشكيلية للفنانة منيرة المَوصِليِ أو للقاص عبدالعزيز مشري، وهي تجربة غابت في ديوانه الآخر بياض الأزمنة ,.
س التأرجح بين الجبل والسهل والبحر في حياة الدميني، كيف ظهر في شعره؟
ج هو ظهور رمزي بالتأكيد لا ظهور واقعي,, فهو يوظّف الطبيعة بوصفها معادلات تعبيرية عن لحظات شعرية تأخذ موقعها من جغرافية نصّه الشعري أو النثري,, فنحن في هذا السياق لا بد أن نثمّن تجربة الدميني النثرية دون أن نحصره في الشعر، وله كما قلنا آنفاً روايته الغيمة الرصاصية ، التي تحمل كذلك الرمزية الفنية للسهل والجبل، منذ عنونة الرواية: اطراف من سيرة سهل الجبليّ , ثم يضاف الى السهل والجبل والبحر: الصحراء في شعره، بوصفها فضاء تعبيريّاً عن الفقد والتيه تارة، كما في قصيدته الخبت : من ديوانه رياح المواقع أو صدراً أموميّاً للحنين إلى الينابيع، كما في قصيدة الهوادج من ديوانه بياض الأزمنة.
س المتأمل لعنوان ديوان الدميني رياح المواقع يشم فيها رائحة الكادي الممزوج بزيت الميكانيكا إلى أي مدى تتفق مع هذا الرأي؟
ج أولاً من زمان قلنا: هي الكاذي بالذال المنقوطة لا بالمهملة,, يمكن ان تلمح تلك العلاقة في ما سبقت إليه الإشارة من الهندسة الايقاعية وهندسة الأشكال الفنية عند علي الدميني ففي رياح المواقع تحديداً ينتظم بناء الديوان اثنا عشر نشيداً، سماها بأناشيد على باب السيدة العظيمة ، تمثل ما يشبه قرار الصدى للقصائد التي تتخلل تلك الأناشيد، في جهاز حواري، خرج به الديوان وكأنه قصيدة واحدة, وقد يرى القارىء وجه شبه بين هذه الآلية وآلية السرد في رواية الغيمة الرصاصية التي تقوم على تشظّي الزمن بين نصين متحاورين في نصّ واحد: نصّ السيرة الذاتية، ونصّ خياليّ غرائبي موازٍ، مع اختلاف الغاية الشعرية عن الغاية السردية، أي أن الدميني لا يفيد من تجربته الحياتية فحسب، كما تلحّ على ذلك الأسئلة، وإنما هو أيضا يغذي تجربته السردية بتجربته الشعرية، والعكس، لينجز تجريباً موفقاً في تواصله النسبي مع متوسط القراء، لأن الرجل موهوب، والموهوب لا خوف عليه من معانقة الآفاق المتنائية، لأن في مقدوره تطويعها وتسويغها لمتلقّيه, بقطع النظر عن الحكم المعياري على مدى نجاحه في هذا أو ذاك,.
س والآن لنتجول في أعماق القصيدة عند الدميني لسبر غورها من حيث الصورة والعاطفة والتراكيب والموضوع,, فماذا يمكن أن نقول عن هذه التجربة؟
ج من مشكلات القصيدة الحديثة وهي تزعم لنفسها خلع عباءة التقليد انها في كثير من نماذجها تقع تحت نمطية التقليد والاجترار الذاتيّ، وهو ما تفلح قصيدة علي الدميني في تجنبه، فلغة قصيدته تمتاز بانها وارفة الشعرية، محملة بانزياحاتها اليانعة، لا نجد انها تذكّرنا بشبه، وهذا في حد ذاته إنجاز قيّم شعريّاً، لأن الأدب والشعر بخاصة هو صنعة لغوية، صنعة ينبغي أن تخفي مشقّة الشاعر في إبداعها، وإلا اثقلت بتكلّفها على القارىء، كما ان قصيدة الدميني علي تنحاز إلى الضنانة النسبية والضرورية التي تحفظ للنص مقروئيته وللشعر ماء فنِّه, وهذه أيضا معادلة دقيقة تحمد له، مثلما ان نصوصه تستدعي مفردات الثقافة والحياة والبيئة بشتى مستوياتها لتوظيفها بحذق.
والصورة الشعرية لديه، تميزها في نطاق مجايليه من شعراء الحركة الشعرية الحديثة في المملكة، انها توغل في تجاوز الصورة البلاغية الجزئية القائمة على المجاز والاستعارة، الى الصورة المشهدية والاستعارة الموسعة، التي لا تقف عند (الاستعارة القصيدة) بل تطمح الى (الاستعارة الديوان)، أي ان يكون الديوان كله استعارة واحدة ممتدة، مثلما أشرنا الى ذلك في ديوانه رياح المواقع ,, وهو في هذا المضمار يبدو اكثر جرأة في التجريب، والإفادة من الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، ويأتي إنجازه الإشكالي الملتبس الأخير الغيمة الرصاصية شاهداً على هذا النزوع المثمر لديه.
اما في البنية الإيقاعية فإن الدميني يميل الى الأداة النظمية، يستثمرها سواء بمعناها التناظري، من قصيد وتوشيح، أو بمعناها التفعيلي، ومن اللافت ان تقف على هذه النظمية حتى في نثره، كان يقول مثلا في الغيمة الرصاصية: أيقنت جدتي انها حضرت متأخرة الى ساحة الأجساد الحبلى بالموت ,, او قوله: قلت باستغراب: لم أورد ذلك في نص عزة,, أو يقول: وكشفتُ سراً عن الناس كان مخفيّاً,, ونحو هذا من أساليب التقديم والتأخير وتنغيم العبارة المتأثر بأجواء الشعر الإيقاعية.
وفي كل أعمال الدميني يحضر همّ المكان والزمان، المعبّر عن شعور حاد بقيم الوطن والحضارة والتاريخ، فشعره يدور في فلك هذا المخزون الجمعي، بحيث تتحول الذات الشاعرة الى محض سؤال/ مثال في دوامة الأسئلة الكلية والكبرى للإنسان، ولعل هذا ما تلامسه من مفردات العنوانات لكتبه: رياح المواقع ,, بياض الأزمنة ,, الغيمة الرصاصية ,, أطراف من سيرة سهل الجبلي ، وهو في هذا بطبيعة الحال يتساوق مع تيار القصيدة الحديثة العام، الذي لم يعد يستسيغ الانعزال في قوالب الغرض التقليدي او في بوتقة أسئلة الذات الرومانتية,.
*آداب جامعة الملك سعود قسم اللغة العربية

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved