Sunday 3rd October, 1999 G No. 9866جريدة الجزيرة الأحد 23 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9866


القصة السعودية/ دراسة نقدية:(3)
التشكل التراثي في دفائن الشمري القصصية
د,محمد محمود رحومة*

(ب)الدفائن والتشخيص:
حاول الكاتب تصوير شخوص قصصه تصويرا تراثياً ينبع من حكايات الاجداد - من دفائن الماضي - ونجح في استحضار شخوص قديمة وكساها لحماً ودماً لتعيش بيننا وتحيا معنا، من هذه الشخوص، ذو العباءة السوداء.
وهو رجل يلوذ بالصمت ويحمل اخبار الوادي,, (ينهض من امامي، ينتزع من كتفه بندقية) (12) يصنع الكاتب هالة اسطورية على بعض شخوصه التي تمثل ادواراً مهمة في حكاياته، وهذا الرجل البطل ذو العباءة السوداء يبدو في القصة حكيما -يلوذ بالصمت - وهو عالم -يحمل اخبار الوادي لذا كان مؤهلا لدور البطولة كما يقتل العدو ويخلص الناس من قهر الخوف، ويأتي ضده ذو العباءة الوردية الذي دفنوه بعد ان قتله نمر جبلي (13) , اللون الاسود لون السيادة والزعامة لدى العربي, واللون الوردي لون يرفضه الرجال ولايرضونه الا قليلاً, انه يحاول استدعاء الالوان التراثية في تشكيل الشخصيات وهي بدعة جديدة يأتي بها الكاتب بمهارة ويؤكد انه يتكىء على دفائنه، يستخرج من صندوقها ماشاء من الاعيب واعاجيب, انه يدهشنا ويبهرنا ويمتعنا بهذه الاطلالة غير المتعمدة على الماضي.
ومن الممكن ان نجد ابعاداً جديدة في التشخيص بالدفائن مع شخصية (ابي موسى) في قصته ابو موسى,, ذلك الذي يحدق بنا وهو يقدمه لنا بقوله ,,انه الشيخ الذي تقهره القرى والاودية المجاورة منذ زمن,, (14) , لقد اراد الكاتب تجسيد شخصية الفقر فاختار له ابا موسى,, ونجح في رسم معالمها بمهارة، فهو مخيف يحلم به الاطفال ويفزعون من نومهم وهو يحمل الفجيعة والحزن، تعلو قسماته مسحة الدهاء، ويأتي ابو موسى تسبقه معالم الخراب والدمار والفاقة والعوز، ويوزع فأله السيئ اثره -تمهيدا لحضوره- الثوب الاصفر- انها اذن شخصية حية لها تأثيرها في احداث القصة، فالكاتب يمهد لها قبل ظهورها وحين يتم الكشف ونلتقي بابي موسى نرى اثره على القرية والوادي على الصغار والكبار.
وام الاشجار تشخيص مثير لشجرة عجوز، يعطي لها الكاتب ابعاداً انسانية، فهي (عنيدة شامخة تنمو بخفرة هائلة,,) وهي تدرك وتعي ,,(تصغي ام الاشجار الى الماء لحظة ان يسكن حفيفها وتراه يطقطق حاملاً قسوة الذبول والتغضن في اوراقها).
وكذلك هي,, يضيء قلبها، يستعر، يخدشه حزن مطرق، يطفئه الماء (15) , اننا هنا لانشهد نهاية شجرة وانما مصرع عمر الكاتب، ويقيم مأتماً لها، يدعو له العصافير والصغار، يعطف عليها الماء والطبيعة من حولها، ولكن الكبار لهم شأن آخر، الحطاب الاهوج والأب الذي يجهز اسلحته، نحن في جنازة انتهاء شجرة، يجسد الكاتب هذا المشهد بخفة ورشاقة ليقدم برهانا آخر على التشخيص بالتراث واستدعاء الصور القديمة لام الاشجار.
وشخصية صقر المعنى شخصية اخرى طريفة يلتقطها الكاتب من صندوق الدفائن، يخرج صقر المعنى مع الغروب وهو مغني ضرير دون رفيق عيناه بوابتان فارغتان ومعتمتان (16) وأثناء ذهابه الى حيث يغني ويدندن، يسقط في حفرة تنزلق قدمه في هوة سحيقة تتبعها القدم الاخرى، بقية الجسد فيغيب في جوفها كاملاً (17) , يقدم الكاتب هنا شخصية انسانية ليس لها حظ او نصيب من الدنيا، فهو فاقد البصر، صوته نشاز، عصبي المزاج ولكنه يقضي ليله في المقهى يغني لهؤلاء الذين لايسمعون شيئاً، ويتخلى عنه صديقه فيلقى حتفه وتنتهي حياته كفقاعة ماء فسرعان ما تعود الحياة الى هدوئها المعتاد بينما يبحث الساهرون في المقهى عمن يخلفه في الغناء, شخصية اخرى من التراث الشعبي لها حضورها الساخر في حياتنا, ان لصوته نشازاً لكن لايستغنى عنه، انه لايرى ولكنه يصر على السير وحده,, انها شخوص تستقي معالمها من الماضي، وتطل علينا- رغم دمامتها- بكل الوان الالفة والجمال, ان الجمال ليس في حلاوة الصوت ولكن في اشياء اخرى يعرفها الذين ادمنوا القديم, الكاتب يزيح شخوص العصر الباهتة ويبحث عن شخصيات لها حضورها وقوة تأثيرها اللاذعة لانها جزء من الماضي.
وتكثر في المجموعة الاخيرة دفائن الاوهن تنمو الشخوص التراثية التي يخرجها الشمري من دفائن الماضي وهو ملمح يؤكد ما نذهب اليه من ان الاعمال الاخيرة تمثل لدى الكاتب مرحلة استعادة الذات وتحول الدفائن الى لحظة اشعاع للماضي وتثوير للمستقبل.
ومن الشخوص التي تؤكد ذلك شخصية مبارك الحلاق، فهو (وجه اسمر مستطيل به انف,, وذو ذقن حليقة دائما,, عينان حادتان، شفتان يعلوهما شارب كثيف واسنان بطلاء تبغ داكن (18) , شخصية عجيبة من الماضي، فو حلاق.
وطبيب وممرض، ماهر في الكلى وعلاج الاعشاب والتراب المذاب بالماء، يشخص الداء ويمنح جرعات الدواء، يكفن الموتى ايضاً!! ومبارك الحلاق موجود في قرانا العربية، يستدعيه الكاتب ليصور به نهاية عصر، وينتهي دوره ويقضي نحبه كمدا على مجد زال عنه بعد انتشار المشافي والكاتب معجب بهذه الشخصية، يقتحم عالمها الاسطوري (كان مبارك الحلاق يستحضر الجن ايضا ويغيب معهم عندما يشاء) ولعلنا نلحظ تغييرا كبيرا في موقف الكاتب، فهو يرى ان انهاء دور مبارك الحلاق امر طبيعي، انه يسمح هنا بالتغيير ويدع العصر يؤكد وجوده وذلك مالم يكن يرضاه من قبل, ان الشخصية التراثية هنا تنهزم امام العصر بعد ان ظلت شامخة تمثل للكاتب نوعا من المحرمات التي لايجب الاقتراب منها, ومع هذا فالشخصية تخرج من اسمال الماضي البالية التي رسمها الكاتب بإتقان فتبرهنا بقدرتها على العودة الى الحياة من جديد وممارسة دور اخر حتى لو استسلمت وماتت في النهاية.
كذلك نجد حمراء سعد، نخلة قصيرة وقديمة شاخت بين شجيرات تنغرس في تراب المجهول، انها نفس حكاية ام الاشجار، ولكن القتل هنا لم يكن مشروعا فقد تم اغتيال حمراء سعد وفي الصباح,, فجع ابي,, وجدها مقتولة بين النخيلات مفصلة الاجزاء,, دماؤها البيضاء، جمارها، قلبها ناصع متناثر (19) .
انه الارث الحضاري القديم الذي يتعامل مع النخلة والشجرة كانسان, ان وجود حمراء سعد يملأ المساحة المكانية والزمانية في القصة، وقتلها غدرا يصيب الاب بالوجوم والغضب, اننا لانتعامل مع جماد بل انسان له نفس الظواهر البشرية الموت، الحياة، الحب، الكره، تطل علينا حمراء سعد من دفائن الشمري وترسم ابعادا انسانية لعطاء نخلة صارت بموجبه ام العرب.
وامنا العجوز، شخصية من الماضي يقدمها من خلال لوحات يضمنها قصته ابناء البأس احفاد الجفاء (20) ،ومن معالم هذه الشخصية ,,(عكازها والسراج هما الشيئان اللذان يمكن ان تحملهما امنا العجوز حال رغبتها الوحيدة والمكررة في الوصول الى عتبة الدار المرتفعة) (21) , تعود بنا الشخصية الى عصر راح واندثر، عصر الحب والخير والبركة، البساطة والهدوء والاستقرار النفسي الذي اصبحنا نفتقده الآن، انها لاتريد شيئا من الدنيا، متعتها الوحيدة الجلوس على عتبة الدار ترقب الرائح والغادي بعينين كليلتين, تتأمل بهجة الاطفال عند حلول المساء، والاطار الذي تقدمه القصة يسمح بتصوير من العادات والتقاليد في الماضي، ويعود بنا الى تواريخ بعيدة تستعيدها الذاكرة من سنين القحط سنة الغرق وسنة السيل الام العجوز تلقى حتفها ولايكاد يشعر بها احد, لقد اندثرت الايام الجميلة والتقاليد الجميلة، وعم السخط وقلت البركة مع وجود المال الوفير ووسائل الراحة, الكاتب صرخ هنا منبها الجيل الجديد حتى لاينسى حقوق الاباء والاجداد ويترك المعاني السامية التي يعرفها مع انها كانت تمثل معنى كبيراً يحسه الكبار منا ويأسف على ضياعه,, (فارقت العجوز الحياة ولم نفق نحن,,) (22)
و (لم يظفر الحفيد الا بتلك العصا والفانوس عله يعتني بهما فيما لوحاول ان يجلس فوق هذه العتبة العالية والعتيقة في وقت آت),.
يحذر الكاتب من نفس المصير من العقوق الذي سوف يطالنا نحن ايضا وعندها سنحتاج الى العكاز والسراج ولن نجد من يرحمنا في الزمن القادم.
ويقدم الكاتب شخصية اخرى يستدعيها من دفائن الماضي هي شخصية ذيب شيخ الرعاة في قصة قبرنا بئر ذئب ، فهو شيخ الرعاة وسيد هذا البئر، يشيب وعينان غائرتان، فم داكن فوق لحية صغيرة، هيئة قاحلة، صلبة، ملامح حزينة وحادة,, تزق، سريع الحركة,, فجيعته تتوالد عن ضحكة يأس يطلقها امام هؤلاء على فوهة هذا البئر,, (23) ,التصوير الدقيق هنا يبدو مجهدا في رسم معالم شخصية من الماضي، يعرفها اهلنا ويستطيعون التقاطها من الذاكرة مرة اخرى يبدو مكر الكاتب في رسم معالم هذه الشخصية، فهو لايريد ان يغريك بحب هذه الشخصية اويجعلك تكرهها، يريد ان يبدو حياديا ومكنها مع ذلك شخصية منفرة لانه يمتلك بئراً يتحكم به في عباد الله، وبعد ان جف ماؤه يتحول الى بئر, ان الدفائن مادة ثرة تقدم عوناً للكاتب هنا لاستدعاء شخوص واجواء لم يعد لها وجود في عالمنا، ويصبح تشخيصها واعادة بثها في الحياة نوعاً من ممارسة الحوار مع الماضي، حتى لاتضيع معالمه او تتناسى دروسه وعبره.
ان الشخوص التي يقدمها الكاتب تحاول ان تتزيا بالتراث، لانكهة الماضي وسحره, هي صفحات من التاريخ المنسى المتصلب في ذاكرة الاباء والاجداد - الى الاجيال الجديدة التي لم تعرف المعاناة، ووجدت كل شيء سهلاً، لتواجه واقعنا المشوش، لتحكي عن ملحمة الاجداد الذين قاوموا القحط والفقر، وحاربوا المستحيل كما نأتي نحن، نجني ثمار مازرعوه في تاريخهم الطويل.
الكاتب يقدم شخوصا تلونت بالدفائن، تنجح في اقناعنا بوجهة نظره، وعدالة قضيته.
(12)ابي والقوافل ص54.
(13)نفسه ص50.
(14)نفسه 139.
(15)وتهرأت حبالها ص75.
(16)نفسه ص90.
(17)نفسه ص91
(18)دفائن الاوهن تنمو ص71.
(19)دفائن الاوهن تنمو ص47.
(20)نفسه ص129
(21)نفسه ص131
(22)دفائن الاوهن تنمو ص136.
(23)نفسه 139.
*عميد كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved