Sunday 3rd October, 1999 G No. 9866جريدة الجزيرة الأحد 23 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9866


على الهامش
هجاء الحداثة الشعرية
حسين المناصرة

لا يخفى على أحد ما تمثله الثقافة الاعلامية الساخرة، كما هو حال المسلسلات والبرامج الترفيهية، والمشاهد البانورامية، من سخرية ما بعدها سخرية في تصوير شخصية المثقف، وخاصة المتفلسف، والشاعر الحداثي، والتشكيلي,, وهذه السخرية بحد ذاتها، فرضتها طبيعة المجتمع الاستهلاكية، والتي لا تكتفي بنمطية الاستهلاك وما تجره من تبليد للقدرات الابداعية الذاتية، بل تذهب هذه الطبيعة الاجتماعية الى السخرية من نماذجها الابداعية, وبالتالي تحويل هذه النماذج المهمة في بناء أي مجتمع له خصوصية انتاجية الى مادة فكاهية، تسلب منها قيمها الثقافية والحضارية,, ومعنى هذا كله ان بنية الثقافة الجادة مهما كان نوعها لابد ان تحال بطريقة أو بأخرى الى نمطية السخرية، ما دام هدف هذه البرامج الاعلامية الساخرة هو الاضحاك والتسلية، لدر الربح عن طريق نغنغة حواس المتلقين، نغنغة سلبية!.
وربما ليست المشكلة في هذا النوع من السخرية الاستهلاكية، والتي عودتنا على ان نرى المبدع مجنونا، والمثقف متفيهقا، والمعلم سفيها، والطبيب جزارا، والقط ممسوخا من الفأر توم وجيري ,, الخ، وانما المشكلة تكمن في كون الثقافة الجادة، أو ما يمكن ان نعده ثقافة جادة ملتزمة، غدت هي الأخرى تتخذ من نفسها موضوعا للسخرية، فغدا الشاعر يسخر من الناقد، والناقد يسخر من المبدع، والمسرحي يسخر من المثقف، والروائي يسخر من الكل,, وكأننا فعلا غدونا جاحظيين نسخر من قيمنا الثقافية التربوية, واذا كان أفلاطون قد أخرج الشعراء من جمهوريته الفاضلة، والجاحظ سخر من المعلم كما سخر من البخيل، فإن ثقافتنا المعاصرة لم تترك مثقفا إلا وسخرت منه.
ومن هذه الناحية تعد رواية القصيبي الأخيرة 7 مشروعا ساخرا متقنا الى درجة تقنع أعتى المعارضين لمثل هذه السخرية، بمشروعية هذه السخرية وقدرتها على النفاذ الى أعمق مواطن سلبيات المثقفين السبعة موضوع السخرية الشاعر، والفيلسوف، والصحفي، والطبيب النفساني، والفلكي الروحاني، ورجل الأعمال، والسياسي ,, ليغدو هؤلاء المثقفون في عربستان موضوعا غير قابل لايجابية ما، أو لتعاطف ما، لذلك أخرجوا من المدينة بطريقة أقسى من طريقة أفلاطون، بعد ان جردتهم الصياغة الجاحظية من أية ميزات تستحق ان تذكر لصالحهم، فكان الموت نهايتهم جميعا!!.
وما يهمنا حقيقة في مجال الابداع: الشاعر، وتحديدا الشاعر الذي خصه القصيبي بالسخرية، وهو شاعر الحداثة الذي شكلته الكتابة السردية في صورة، يهيأ لأي قارىء يقرأها، أنها كاروكاتير لغوي قبيح الى حد تغيب منه أية صورة انسانية، باستثناء آخر لقطة في المشهد، وهي لقطة غياب الشاعر عن الوعي بعد ان صكته زوجه التي يطلق عليها مسمى بقرة بطنجرة البامية على رأسه في سياق صراعها مع شاعرة بقرة أخرى سمينة في التنافس عليه، حيث أمسى بالنسبة لزوجه السمينة نصف رجل!!.
ما علامات هذه الشخصية التي صورها القصيبي؟.
باختصار شديد هي علامات عديدة، كل علامة منها اقبح من الأخرى، ولعل أبرزها العلامات التالية: الثقافة المزورة، الشعر غير المفهوم، اللغة النقدية والصحفية المخترعة لألفاظ مزورة غير مفهومة، السرقة الشعرية تحت مسميات التناص من شعراء الغرب، بيع الشعر لابناء الذوات في المدارس، الشهرة الكاذبة وحوز الجوائز، النظرة الى كل الآخرين على أنهم بقر، مهاجمة الثقافة كلها وعلى رأسهم الشعراء والنقاد، الشهوانية، صفة المخمور، صفة الانتهازية، صفة الادعاء، صفة التناقض، صفة حب المال والادعاء عكس ذلك,, وربما من كل ذلك نستنتج صفة بيت العنكبوت في مهب ريح عاصفة، لذلك كان الموت في العاصفة البحرية منقذا للبشرية من هذا الشاعر الآفة، والكارثة بعد ذلك ان يغدو هذا الشاعر أسطورة النقاد بعد موته!!.
فإذا كان المثقف ذاته يكتب هذا الكلام عن زميله المثقف في عصر غدت فيه الكلمة الاعلامية هي كلمة واصلة الى أي متلق، ما دامت هذه الكلمة مهيأة للوصول، وخاصة اذا كانت كلمة للقصيبي المنتشر اعلاميا، حيث روى لي أحد الزملاء انه قرأ رواية القصيبي 340ص في ليلة واحدة!! دلالة على قوتها في التوصيل.
انها كارثة بحق الشاعر، والشاعر الحداثي تحديدا، اذا اصبحت هذه المادة متلفزة، وفي ظني أنها قد تصبح في أقرب وقت مشاهد متلفزة تعرض في رمضان، كأدب ساخر، على عدة شاشات فضائية عربية,, واذا وقع الشاعر حينها مصروعا، فإن سكاكينه ستكثر، علما بأنه قد وقع الى حد ما منذ نكسة حزيران 1967, وحتى لا نظلم الكتابة السردية وجماليتها القادرة على استبطان سلبيات الثقافة التي انتجتها سخرية القصيبي في روايته هذه، فإننا مدعوون فعلا لاعادة النظر في ثقافتنا الحداثية التي غدت مثارا للسخرية والرفض والهدم,, بعد ان اثبتت انها ليست ابنة عيشة، على الأقل بين جمهور المتلقين العاديين، من منبتها الى منتهاها؟ وليس هناك عيب ما، ان يعيد المثقفون قراءة الذات بين الموت والحياة لبناء الكيان الثقافي الحضاري التواصلي، خاصة ان الشاعر نفسه موضوع السخرية، يظهر في اللغة السردية وهو لا يعرف عن الإنترنت أية معلومة، علما بأنه يردد التناص في كل مناسبة، معتبرا نفسه ومضة العبقرية وسط قطيع من البقر!!.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved