(ليست المشكلة في المشكلة ذاتها او حتى في تفاصيلها وانما في الاساس الذي تنهض عليه) هذه هي الحكمة التي خرجت بها من هذه القصة التي سأقصها عليكم هذه الايام.
منذ زمن طويل لنقل في اواخر الستينيات من هذا القرن كنا حينها نقضي فترة الصيف بالطائف كما كنا نفعل كل عام, كنا مجموعة من العائلات المصطافة تفرض علينا ظروف ابائنا العملية ان ننتقل كل صيف للطائف,, اصيب في احدى الصيفيات شاب من شلتنا بحالة جنون صعبة فأودعه شقيقه مستشفى الامراض العصبية بالطائف.
ومن باب المجاملة والمؤازرة والفضول اخذنا نزور المريض يوميا، تقريبا، بصحبة شقيقه ومع تكرار الزيارات بدأنا نتعرف على المرضى والممرضين والاطباء وتشكلت بيننا وبينهم أُلفة, عالم الجنون عالم مميز ومخيف يفرض عليك مهابته ورعبه، كأن فقدان العقل ظلمة تزداد ظلمة كلما تقادم وجود الانسان فيها, كنت في بداية حياتي المراهقة وكان الجنون بالنسبة لي هو عالم مشحون بالخرافات والاوهام والخوف,, كانت تلك هي المرة الاولى التي اقف فيها على حالات متنوعة من الجنون.
شاهدت فعلا حالات جنون تثير الشفقة ولكني ايضا شاهدت حالات جنون يصعب تصنيفها ضمن الجنون,, كان صديقنا مودعا في عنبر ضخم يضم حوالي ثلاثة عشر مريضا كل منهم يسير في طريق محزن مؤلم يخصه وحده، هذه مشكلة الجنون المعذبة في ظني فكل مريض لاحظته هو مريض بمرض صمم له وحده لا يشاركه فيه احد.
فهناك شاب صغير لايترك الراديو رغم انه لا يسمع منه اي شيء لا يتوقف عن تقليب مؤشره, وهناك آخرلايكف عن تنظيف سريره منذ ان ندخل حتى نخرج وهناك مجموعة تتحدث مع بعضها بكلام لايمكن فهمه, وهناك شخص يحدق في السقف لساعات مع حركات صغيرة متباعدة متباطئة تنويعة من الحيوات لا يمكن لي ان انساها ابداً,, وكان بين المرضى رجل تجاوز الثلاثين بكثير بهي الطلعة طويل هادىء الطباع يأسرك عندما يتحدث لا يمكن ان تصفه بالجنون لا يمكن ان تصدق انه مجنون لو التقيته في مكان غير هذا, ومع تكرار الزيارات عقدت معه صداقة خاصة كان في غاية الطيبة والحكمة والتفهم كان يقدم لي النصائح والتوجيهات التي كنت فعلا في حاجة اليها في ذلك الحين, ومن شدة حكمتها احس بتساؤل ملح عن سبب دخوله المستشفى خصوصا اني سمعت انه امضى اكثر من عشر سنوات ممتزجا بهؤلاء فليس من الحكمة او التعقل ان اسأله عن سبب جنونه, لم اكن اتحدث معه عن الجنون لم اتحدث معه حتى عن جنون الاخرين؛ حتى لا ينزلق الحديث الى جنونه, كان يشجع الاتحاد وانا اشجع الهلال والكورة يمكن ان تمنح ما يكفي لحديث يطول ساعات ولم تكن احاديث الكورة هي كل حديثنا كنا نتجول في العالم حتى نبلغ السياسة الدولية.
في احدى زيارتنا للمستشفى شعرت لاول مرة ان المستشفى يسبح في هدوء يسمح بالبوح، كان معظم المرضى في جولتهم اليومية التي يقضونها في الحديقة او حتى في السوق, كان العنبر خاليا إلا منه ومن الشاب الذي لا يتوقف عن الدوران بالراديو الذي معه، وشيخ حطم الجنون كل علاقة له بالعالم تراه دائما ملقى على سريره كأنما هو ميت لا يريد ان يتوقف عن هذا الموت الذي اختاره له الله من سلة الجنون المتنوعة, بدأنا حديثنا ككل مرة عن استعدادات الفرق للدوري القادم، ولكنه فجأة قطع حديث الكرة وقال دون ترتيب نفسي مسبق: عبدالله اظنك تريد ان تعرف لماذا انا هنا؟
لا يعلم الا الله كم ارتبكت ولكني تماسكت بأقصى ما استطيع فقد كان بداخلي فضول لا يمكن احتماله لأعرف لماذا يودع رجل بهذا الرشد والحكمة مع هؤلاء المجانين؟
فقلت بصوت هادىء وعميق: بصراحة نعم, ولكني لم استطع ان أسالك فقال: هناك كثير يسألون هذا السؤال واعرف ان الكثير لا يجرؤون ان يوجهونه لي مباشرة ولكنني اعرف ما الذي يدور في اعماقهم؟ لا الومك ولا ألوم احدا ينتابه مثل هذا التساؤل, لا يستطيع احد ان يلاحظ عليّ اي عرض من اعراض الجنون ولم اكن مجنونا ابدا ولكن الله قضى ان امكث في هذا المستشفى مع هؤلاء المجانين افضل ايام عمري وربما بقيّته, فعندما اودعت هذا المستشفى كان عمري تسعة وعشرين عاما.
في كل مرة يتحدث معي كنت اكافح لأتخلص من احساسي بأنني اتحدث الى نزيل مستشفى امراض عصبية وكنت انجح، الا هذه المرة شعرت ان الرجل يستدني شيئا من الجنون كما ان هناك بعض الحزن يطوف بعينيه فقد غاب صاحبي الذي اعرفه على الاقل غاب جزء كبير منه, فبدأت اشاهد في عينيه عالمين احدهما يقف خلف الاخر يتصارعان لانجاز البوح الذي هو بصدده, من عادته ان يحرك طرف حواف الشرشف كأنه يريد شيئا يعصره في يده يريد شيئاً ينتقم منه، وبعد صمت طفيف فتح الستارة على عقل خربه الجنون المخادع.
لذا اقترح على القارىء ان يصغي للحكاية من بدايتها اظن ان القصة والحكمة التي تقف وراءها يستحقان الريالين اللذين ستدفعهما ثمنا لجريدة الجزيرة يوم الاثنين القادم.
لمناقشة الكاتب أو شتمه.
yara 2222* hotmail.com