Saturday 2nd October, 1999 G No. 9865جريدة الجزيرة السبت 22 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9865


على مشارف القرن الواحد والعشرين
الثورة التكنولوجية والأدب

*تأليف: فالينتينا إيفاتشيفا
*ترجمة: فخري لبيب
*عرض وتقديم: د, مصطفى رجب
إن الثورة التكنولوجية وتأثيرها الواسع على كثير من نواحي الحياة في كل البلدان المتطورة صناعيا في عالم اليوم، ليست مشكلة محلية، لكنها مشكلة يستحيل تجاهل تأثيرها الواضح على الوجود الانساني وعلى حياة الملايين, فوجودها امر محسوس في الادب في طول العالم وعرضه، وهو امر قد اجبر نقاد الادب والمؤرخين على تكريس اهتمام حقيقي له.
والثورة التكنولوجية وتأثيرها على الادب هي موضوع كتاب (على مشارف القرن العشرين الثورة التكنولوجية والأدب) والذي بين ايدينا وهو من تأليف الاستاذة الدكتورة فالنتينا ايفاتشيفا الاستاذ بجامعة موسكو والناقدة البارزة ولها عدد من المؤلفات الاخرى حول الادب الانجليزي والامريكي في القرنين التاسع عشر والعشرين وهذا الكتاب من اصدارات دار الثقافة الجديدة بالقاهرة ويتكون الكتاب من سبعة فصول تستغرق 278 صفحة من القطع الكبير، وهو يعالج آثار تلك الثورة التكنولوجية في البلاد الصناعية المتقدمة على الادب، ففي الفصل الاول سمات جديدة في ادب اليوم (تتناول المؤلفة السمات الجديدة التي طرأت على الادب، فالتغيرات التي حدثت امر ظاهر في اساليب عديد من الكتاب وفي التكوين الذي يعطونه لموضوعاتهم، وهذه التغيرات تحدد انواع الاختيار التي يقوم بها كتاب اليوم، إن تطورا متميزا للغاية يحدث في الاشكال والانواع التي اكتسبت اشكالا معينة ثابتة في القرن التاسع عشر وباكورة القرن العشرين, فالسمات التي تقررت منذ امد بعيد لهذه الانواع تكتسب اليوم ابعادا جديدة، ويبحث مؤلفو المسرحيات الشعرية عن اساليب جديدة للتعبير.
ان الادب المعاصر (في البلدان الرأسمالية عالية التطور وفي البلدان الاشتراكية) يتصف بثلاثة اتجاهات مميزة للغاية، ويكمن منبع هذه الاتجاهات في الانفجار التكنولوجي الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وهذه الاتجاهات هي:
الميل المحسوس عند عديد من الكتاب للبحث عن اسس وثائقية لأعمالهم (كتاب النثر وبالمثل كتاب المسرح) والذي يمكن إثباته بعدد من الاعمال (مثل مسرحية المتوحشون لكريستوفر هامبون).
1- دفعة الرواج الذي لا يصدق، والذي تحظى به الروايات الخيالية - العلمية بعد منتصف الخمسينات.
2- الاهتمام البالغ، البادي في التأمل الفلسفي، والذي نتج عنه كمية كبيرة من النثر، والمسرحيات والشعر الفلسفي الذي يكتب اليوم.
واول هذه الاتجاهات في ادب اليوم، ذلك الاهتمام الفائق الذي يظهر في انواع متعددة من الكتابة الوثائقية، وعلى وجه الخصوص في أي نوع من انواع الريبورتاج, فالاتجاه الوثائقي في النثر والدراما ملحوظ بشكل خاص في المانيا والولايات المتحدة، وقد غدا هذا الاتجاه واحدا من اكثر الاتجاهات وضوحا في الادب الالماني الحديث، وفي المسرح فان واحدة من الصور الجذابة والتي توضح سيطرة المادة الوثائقية على الكاتب، هي مسرحيات (رولف هوكهدث der stellvetreter التي كتبت عام 1962، ورغم ان الاتجاه الوثائقي اقل وضوحا في الأدب الفرنسي المعاصر الا انه مع ذلك موجود، ومثال ذلك كتاب (نيكول فرديريه) الذي وصفه مؤلفه على انه (سفر أخبار وثائقي).
ومن الواضح ان الاتجاه الوثائقي، هو واحد من مظاهر التأثير الفعال للاساليب العلمية للمعرفة، وللبواعث الانسانية التي تجاهد للتحقق ولاقامة الدليل والحجة، والتي نتجت عن تطور (العلوم المدققة) على الادب.
وفي الفصل الثاني تتناول المؤلفة: (الاتجاه الفلسفي في الادب المعاصر) ففي عام 1968 عبر البرتو مورافيا عن قلقه من حقيقة ان المسألة بين الحكاية في الادب والشيء المحكي عنه تناقض بشكل ثابت، اي ان الادب يصبح اكثر فأكثر مثل وثيقة او سجل، وعندما تختفي تلك المسافة تماما، فإن الرواية الخيالية على ما هي عليه سوف تتلاشى، وذلك طبقا لما يراه مورافيا بعقله.
إن الادب الفلسفي قد تطور بطريقة غير مستوية، متخذا اتجاهات مختلفة في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية فالادب الفرنسي قد قدم عددا من الاعمال الوجودية المهمة اثناء سنوات الحرب واهمها روايات البرت كامي وسارتر وسيمون دي يوفوار, ويعتبر بعض الفلاسفة ان الوجودية لم تكن ابدا واسعة الانتشار، كما كانت في فرنسا او المانيا مثلا انهم على صواب من زاوية وجهة نظرهم.
وفي الفصل الثالث تتحدث المؤلفة عن (الزمان والمكان في الادب الحديث) فالزمان والمكان في ايامنا هذه موضوعات لها اهمية حيوية، ليس فقط لعلماء الطبيعة والفلاسفة، ولكن ايضا لقطاع عريض من الناس في طول العالم وعرضه، فمشكلة المكان والزمان كانت واحدة من المسائل التي تثير قلق الكتاب مؤلفي الدراما والشعراء منذ زمن مضى، منذ انعطافة هذا القرن، والآن يطرحها بصورة اكثر عدد اكبر من الكتاب.
فقد كشفت النظرية النسبية عن بعض الصفات غير المألوفة للزمان والمكان، بإثبات ان خواصهما غير ثابتة، وأنها لم تمنح لهما مرة واحدة والى الابد، ولم يعد هذا الكشف ملكا لعلماء الطبيعة وحدهم بل لقد جذب الكتاب بالمثل,, وعلى اية حال فانها الطريقة التي تناول بها الكتاب هذه المشكلة ويتعاملون معها في الأدب.
واليوم جمع العلم (وخاصة علوم الفيزياء) قدرا كبيرا من المادة التي تسمح للمرء ان يقترب من مشكلة الخواص الكونية للزمان والمكان من زاوية اخرى، على اساس المادية الجدلية، وقد كشفت النظرية النسبية ايضا عن تأثير ابطاء الزمان في الانظمة سريعة الحركة، إننا نعرف اليوم ان الساعات تجري اكثر بطئا في الانظمة سريعة الحركة.
لقد احتلت مشكلة الزمان والمكان مركزا بين كل المشاكل الفلسفية التي اثارت اهتمام الكتاب بشكل خاص، تلك كانت هي الحالة بالفعل عند منعطف القرن, فمعالجة تلك المسائل في الرواية الخيالية حينذاك، ومدى اختلاف تناولها في الادب الحديث، إنما هو على اي حال موضوع آخر تماما.
اما الفصل الرابع فهو بعنوان (اكتشاف جديد في العلوم الانسانية) فتتحدث فيه المؤلفة عن رواية (بلا اسم) وهي آخر ما كتب الروائي (ويكلي كوليتر) في بريطانيا والذي كان يتمتع في ذلك الوقت بشعبية لا نظير لها، فلاقت تلك الرواية رواجا طيبا، وسرعان ما نفدت وأعيد طبعها.
ان - بلا اسم - كانت آنية الى اقصى حد بالنسبة الى الستينات في القرن التاسع عشر، فويكلي الذي كان يهتم على الدوام اهتماما بالغا بالعلم المعاصر، ويتابع عن كثب ما يقدمه من اكتشافات، قد وضع سؤالا لايمكن ان تتجاهله الانتلجنتسيا المنبهرة في ذلك الوقت بأي عمل جديد تتناول مشاكل الوراثة، ان الرواية بالاضافة الى ذلك قد غطت بعض الاكتشافات المهمة في هذا المجال.
وقد خاضت المؤلفة بالتفصيل في قليل من الاعمال المعاصرة لمؤلفين سوفيت، تلك الاعمال التي أخذت موضوعها من اكثر المشاكل اهمية ولفتاً للانتباه، والتي تواجه علماء الاحياء وعلماء وظائف الاعضاء والكيمياء الحيوية والاضطرابات النفسية والعصبية، وهي في الحقيقة تواجه كل هؤلاء المشغولين بدراسة الانسان التي اختار الاعمال التي كان تميم مؤلفها لها من البساطة بحيث يمكن ادراكه وتنبيهه، فالفجوة بين الرواية العلمية - الخيالية والانواع الاخرى، مثل الحكاية الخرافية الفلسفية وكتيبات السخرية التي تتخذ صورة علمية - خيالية، وكذا القصة الخيالية المقدمة على نحو شبه وثائقي بصورة خاصة قد بدأت تضيق مؤخرا.
وفي الفصل الخامس (ازمة الهوية في الغرب) تتحدث المؤلفة عن هذه الازمة التي اجتاحت الغرب فالتطور البدني والثقافي للفرد متوقف على عوامل عدة، وكل منها فريد بشكل مطلق، وفي البداية فان تلك العوامل هي عوامل بيولوجية بحتة، ثم تتحسن فيما بعد بتأثير عوامل اجتماعية بالمثل.
وإن عددا متزايدا من المفكرين منزعجون اليوم مما يرونه تهديدا للفرد، وهذا الانزعاج يمكن الإحساس به في احد اشكاله في عالم البرجوازية اللاحق للصناعة، حيث ادت الثورة التكنولوجية التي شاهدناها خلال العقود الماضية الى تحديث واتوماتية الانتاج وأدوات العمل، والذي نتج عنه تفاقم الاشكال القديمة في الاغتراب والاستغلال وظهور اشكال جديدة.
وفي الفصل السادس (في قبضة الامراض العقلية والنفسية) تقول المؤلفة ان كثيرا ما يقرأ الغرب خلال الحقبات الاخيرة عن الوجود المتزايد لعديد من الامراض العقلية الانسانية وعن الحالات الحدية - والتي تقود الانسان الى حافة الجنون.
فالآلاف الآن تبتلعها مستشفيات الامراض العقلية والنفسية، وغدا عدد الاماكن المتاحة في المصحات العقلية قاصرا عن الايفاء بالاحتياج المتزايد، فنحن نقرأ بصورة مستمرة في صحافة العديد من البلدان الغربية الرأسمالية عن التأثير المخيف للضوضاء في المدن الكبرى على الناس، عن تأثير الهدير الدائم للطائرات وخاصة على هؤلاء الذين يعيشون قرب المطارات، عن ضجيج الدراجات البخارية وضوضاء العدد المتنامي يوميا من السيارات.
ان التصنيع الكلي الذي يعم البلدان عالية التطور في الغرب وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الامريكية قد انتج الخيبة والاحباط الذي يقود الى مختلف الحالات المرضية، فإننا نجد وقائع متزايدة الحدوث للامراض العصبية والعقلية النفسانية الناجمة عن توحيد ومعايرة حياة المثقف كلها، والتي يحددها الغاء شخصية المحيط اليومي، والذي تسيطر عليه الاشياء، دافعة الكائن البشري بشكل كلي الى مرتبة ثانوية، مما يفقده بالتالي هويته.
وفي الفصل السابع والاخير (المعالجة الادبية للنفس البشرية اليوم) تتناول المؤلفة كيفية هذه المعالجة الادبية وكيف ان تحليل العالم الداخلي للفرد كجزء من التصوير الواقعي للشخصية ليس طريقة ادبية خاصة بالعالم الغربي، فالصور النفيسة موجودة في - ديكيتر - وربما اكثر فن من - ستندالو فتحليل الحياة الداخلية قد غدت في بداية القرن العشرين، نهاية في حد ذاتها، لكتاب مدرسة، فيرجينيا وولف - ففرجينيا وولف وهي واحدة من مؤسسي المدرسة الحديثة، قد ناشدت الكتاب في مقالة لها عن الرواية، ان سجلوا الذرات بينما تسقط فوق العقل بنفس الترتيب الذي سقطت به، وكذلك ان يتبعوا النموذج مهما بدا مظهره غير مترابط او متماسك، نموذج المؤثرات العابرة للاحداث غير المهمة، الى اجحاف التصوير الواقعي للحياة بكل تنوعاتها.
لقد حدثت تطورات كبيرة في دراسة المخ، فعلم الوظائف قد غدا خلال العقد الماضي موظفا بشكل متزايد، موسعا دراسة الظاهرة النفسية بالتوجه والاقتراب من وظائف الاعصاب والاجسام البشرية، ويقوم علم الحياة وعلم وظائف الاعضاء بالجزء الرئيسي من الدراسة الخاصة بالمخ، الا انهما بالنسبة لمستوى التطور الذي بلغاه اليوم، فإنهما متداخلان في كثير من النواحي، الى حد انه من العسير في الغالب، تقرير3 اي ناحية من تلك الدراسة هي مجال اي من هذين العلمين.
فيجب علينا عند العودة الى التقدم الذي تم تحقيقه اليوم في فن التحليل في مجال الادب، وما هو جديد في مجال دراسة النفس البشرية، ان نؤكد ان كل البحث المعقد والمتنوع في المخ، والذي كان يجرى خلال العقود الاخيرة، ويواكب الثورة التكنولوجية، قد قاد الى وضوح اكثر في فهمنا لطبيعة الوعي واللاوعي، وبالتالي الى طرق افضل في تسجيلها وتثبيتها, وما كان لهذا ان يؤثر في الدروب التي اتخذها فنانو اليوم، وخاصة هؤلاء الذين يوجهون انتباههم اساسا الى الدراسات النفسية، الى كشف اعمق اعماق العالم الداخلي للانسان.
وكما تقول المؤلفة فإن الدراسة المتعمقة للوعي واللاوعي والتي بدونها لن يكون هناك علم للسيكولوجي كانت هي الاساس العلمي الذي قام عليه التحليل الفني لعالم الانسان الداخلي, ان بعض الكتاب لم يهضموا او يستوعبوا كل ذلك استيعابا كليا، بينما الآخرون علىعكس ذلك يسايرون التفكير العلمي للقرن ويصلون الى ادراك جديد لعملياتهم الخلاقة وللطريقة التي يعملون بها.
ان الادب النفسي اليوم قد جرّد نفسه من الزخارف الوجدانية، ومن اي نوع من العاطفية، حتى من اي شكل من الاخيرة, ان التحليل النفسي اليوم مختصر، اختصار التعبير الذي بيديه رجال ونساء اليوم عند اظهار مشاعرهم وافكارهم، وفي نفس الوقت فإن هذا الوصف النفسي المتحفظ والموجز، يحفر بعمق في تيه اللاوعي، حارسا صمت المأساة المصونة الموجودة هنالك، اكثر من مبادلتها على طريقة - الدفع فورا - بعواطف وخبرات محدودة النطاق.
ان الموضوعات غالبا ما تكون مألوفة الا ان اعظم انجازات هذا النوع الجديد من النشر، انها في مألوفها تكشف على الدوام عن اشياء ذات اهمية ضخمة, ان الانسان يعمق اليوم وبشكل مستمر معارف مخه، يضع ويحل مشكلة كل من الوعي والنفس اللاواعية,, ان ادب اليوم ليس انعكاسا للحياة فقط، لكنه ايضا انعكاس للبحث الذي يجريه العلماء في معاملهم، بغض النظر عن كون هذا الانعكاس منحرفاً او غير مباشر.
وبعد، فإن الموضوعات التي تناولتها مؤلفة هذا الكتاب بالنقاش ليست هي الموضوعات الوحيدة الجديرة بالانتباه من هذه الناحية، لكن ربما تكون الاكثر اهمية في جذب انتباه الباحثين في المستقبل القريب.
ان القرن العشرين قد ولّى ونعيش الآن عصر التقدم الظافر للنظرية النسبية، والتي يمر الوقت طبقا لها في دروب مختلفة بأبعاد مختلفة، كما ان قياسنا للزمان قد تغير بالفعل في عصر التقدم المطرد، عندما يغدو الشهر احيانا كعام كامل، والعام الواحد يستطيع ان يحتوي احداثا تكفي قرنا,وفي النهاية نوجه الشكر للمترجم الذي حاول قدر استطاعته ان يكون امينا في النقل، ولقد نجح بالفعل في عمله واستطاع ان يصل بالمعلومة الى المتلقي العربي، وهو كتاب جدير بالقراءة والاقتناء.


رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
شعر
تقارير
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved