أطلق على طليطلة الثغر الاعلى - والثغر الأدنى - والثغر الأوسط، ولهذه الاوصاف مزيد تحقيق في غير هذه العجالة,, وكارثتها الكبرى استقلال بني ذي النون بمملكتها,, وهم من ملوك الطوائف, وملوك الطوائف كارثة الاندلس كلها، وقد برم بهم الإمامان الجليلان، ابو محمد ابن حزم، وأبو الوليد الباجي، وتنبآ بسقوط الأندلس,, أما أبو محمد فسعى في عودة الخلافة الأموية، ولما يئس وقامت دويلات الطوائف اعتزل السياسة، وسخر منهم، ولعن جميعهم، ولم يبايع واحدا منهم,, وأما ابو الوليد فقد دعاهم الى الوحدة، وحذرهم التفاف النصارى عليهم، ولكنه وجد اشباه رجال اسكرهم البذخ والتعاظم بغير عظيم.
وبنو ذي النون بربر من قبائل هوارة، واصل لقبهم (زنون)، ثم اصبح ذا النون,, وبدايتهم ان جدهم ذا النون بن سليمان مرَّض خصياً من خصيان الأمير محمد بن عبدالرحمن أثناء عودة الأمير من احدى الغزوات - وكان ذلك بشنت برية موطن ذي النون، وأوصاه بالخصي خيرا، فاحتفى به، ثم حمله بنفسه - بعد ما برىء - إلى قرطبة - فجعله الامير محمد حاكما لحصن إقليش، وارتهن بعض أولاده، ليضمن وفاءه.
وقد خرج ابن موسى بن ذي النون عن الطاعة سنة 260ه حتى أخضعه الامير محمد كما روى ذلك ابن حيان الأندلسي المؤرخ عن عيسى بن احمد الرازي,, وهكذا أخضع الناصر ابنه الفتح بن موسى عندما أراد الاستقلال بقلعة رباح وأحوازها.
ويذكر ابن حيان ان المنصور بن أبي عامر ولّى مطرف بن اسماعيل بن عامر بن ذي النون سنة 363ه على وبذة واكثر حصون شنت برية وقراها.
قال أبو عبدالرحمن: وهذا ينافي دعوى ابن الخطيب ان بني ذي النون لم يكن لهم رياسة ولا نباهة الا في دولة المنصور بن أبي عامر,, وعلى اي تقدير فسالفتهم سالفة غدر وخروج على ولاة الامر، والمنصور بن أبي عامر ذاته اول بذور الفرقة، وغزواته للنصارى صحوة الموت، وهي كرات نهب خاطفة، وليست غزوات فتوح واستقرار، بل هي أكبر عامل لتجمع دول النصارى وإجماعهم الرأي، وتوحيدهم العدة والعدد.
ولما انقرضت الدولة العامرية لحق عبدالرحمن بن ذي النون بالثغر، فمنحه سليمان الظافر حكم إقليش، ثم استولى ابنه اسماعيل على قلعة قونقة بعد موت واضح العامري، ولف الأنحاء المجاورة حتى خلصت له كورة شنتبرية كلها,, وكان سليمان الظافر مخذولا بغلبة البربر عليه، وقد منح اسماعيل رتبة الوزارة، ولقبه بناصر الدولة، فكافأه اسماعيل بالخروج عليه والاستقلال بما في يده، وكم في التاريخ من عجائب الغدر والأنانية الأليمة!!
ومن مناقب إسماعيل البربري البخل الممتن، وقد تغنى ابن حبان بهذه المكرمة، فقال عن إسماعيل: (لم يرغب في صنيعة، ولا سارع الى حسنة، ولا جاد بمعروف، ولا عرج عليه أديب ولاشاعر، ولا امتدحه ناظم ولا ناثر، ولا استخرج من يده درهم في حق ولا باطل، ولا حظي أحد منه بطائل).
ومن لؤم هذا البيت انه اول مبادرة قذرة لتفريق شمل المسلمين بالاندلس,, قال ابن حيان: كان ]اي اسماعيل ابن ذي النون[ فرط الملوك في إيثار الفرقة، فاقتدى به من أتى بعده، وأمُّوا في الخلافة نهجه، فصار جرثومة النفاق، ومنه تفجر ينبوع الفتن والمحن .
قال أبوعبدالرحمن: ودخلت طليطلة في ملك بني ذي النون سنة 427ه، وقد صرح ابن حيان ان هذا البخيل النتن إسماعيل صاحب حظ، ولهذا دعا أهل طليطلة في ذلك العام عبدالرحمن بن ذي النون من شنتبرية لتوليها، فأرسل لهم ابنه إسماعيل ولما تولى إسماعيل حكم طليطلة وأعمالها تلقب بالظافر,, وكان ابوبكر ابن الحديدي صاحب مسجد المردوم الذي مر ذكره - عالماً داهية راجح العقل مطاعاً في المدينة، وكان يسمى كبير الجماعة ، فاعتمد إسماعيل على مشورته وتدبيره.
وهلك إسماعيل سنة 435 (1043م)، فتولى بعده ابنه يحيى المأمون، وأضاف إلى نتانة أبيه نتانة أشد، وهي الاستعانة بالنصارى على المسلمين، فكان فاتحة شر آخر,, وهذا ما قطّع قلب إمامنا أبي محمد ابن حزم - قدس الله روحه، ونور ضريحه - حسرة في رسالته التلخيص لوجوه التخليص ، ولعن ملوك الطوائف عامة، وذكر أنهم لو وجدوا في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لفعلوا، وقال: لعن الله جميعهم، وسلّ عليهم سيفاً من سيوفه .
وبعض السذج يحسبون أبا محمد ناصبياً، وأنه معهم ضد آل البيت,, كأنهم لم يقرءوا تعاطفه مع آل البيت، ولعنه لقتلة الحسين رضي الله عنه، وتنديده بمظالم بني أمية في المشرق مع فرحه بعزائمهم,, إن أبا محمد متشيع لبني أمية في الأندلس تشيعاً لدولة المسلمين القوية القائمة، ثم كان متفانيا في نصرها الى آخر رمق خوفا من دويلات الطوائف المرذولة التي دُوِّن بها سفر الخروج من الأندلس.
لقد تقاتل ابن ذي النون مع جيرانه من ملوك الطوائف، فطلب من ملك قشتالة النصراني فرناندو الأول معونته على ابن هود صاحب سرقسطة والثغر الأعلى، ويذكر ابن عَذَارَى أن ابن ذي النون تعهد لفرناندو أن يدفع له الجزية، وأن يقر بسيادته، فوا إسلاماه، وواحسرتاه من هؤلاء الأقزام الصغار!!
لقد عاث فرناندو في أراضي ابن هود وخربها، وحصد غلتها، وحملها الى بلاده بعد ان قتل من المسلمين، وحمل منهم سبياً.
وسرت عدوى الخيانة الى ابن هود، فأرسل الأموال والتحف الى فرناندو ليغير على ابن ذي النون، ففعل بمملكة ابن ذي النون ثانية ما فعله بمملكة ابن هود أولا.
وزاد ابن ذي النون الطين بلة فاستعان بملك نافار النصراني غرسية - وهو اخو فرناندو -، فعاث في ديار ابن هود فساداً واستعاد قلعة (قلهرَّة) سنة 437ه (1045م)، وهي مما افتتحه المنصور ابن ابي عامر.
وتوالت المحن على المسلمين، وكان عبدالرحمن بن إسماعيل - أخو يحيى - مع ابن هود وحلفائه من النصارى ضد أخيه وبعد مكاتبات من المسلمين بطليطلة للخائنين ابن هود وابن ذي النون ليتصالحا إبقاء لريح الأمة، ولفرناندو يطلبون منه الصلح والهدنة: كان هذا الرد المبكي الذي نقله ابن عَذَارى، وهو جواب من فرناندو لأهل طليطلة: إنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديما في اول أمركم، فقد سكنتموها ما قُضي لكم، وقد نُصرنا الآن عليكم برداءتكم، فارحلوا الى عدوتكم,,,
قال أبو عبدالرحمن: لو كان في مسلمي الأندلس يومها رمق ما ذكَّرهم بما يثير نخوتهم من بيانه لرداءتهم، ولما شمت بهم!!
وفتح الباب لفرناندو فلم يحتج الى حليف من المسلمين على المسلمين، فأغار على شمال مملكة طليطلة عام 454 (1062م) - قبل وفاة الإمام ابن حزم بعامين وهو رحمه الله بمنفاه غرب الأندلس -، فخربها وعاث فيها فساداً الى ان اذعن ابن ذي النون الخائب إلى استمرار اداء الجزية.
وفي إحدى الروايات ان ابن ذي النون استعان بالنصارى في استيلائه على بلنسية.
وعلى اي حال فكان ابن ذي النون عاملا صغيرا من عمال فرناندو، وعبداً وضيعاً له.
وهذا المنتن يحيى بن ذي النون استضاف ألفونسو بن فرناندو تسعة أشهر بغاية الاكرام لما التجأ اليه بعد الحرب الأهلية بين ابناء فرناندو الثلاثة، فلما مات أخوه سانشو عاد الى مملكته ليون، وأفاد خبرة بطليطلة ليستولي عليها فيما بعد.
واستيلاء ابن ذي النون على قرطبة بسبل غدر بغيضة، وله مع هذا نصيب كبير من الترف الذي لا يليق بوضيع مثله في ذمة النصارى بعد عز المسلمين ومنعتهم.
قال أبو عبدالرحمن: ويأتي حديثه إن شاء الله عن هذا البذخ، وعن نهاية أهل هذا البيت الآثم، فقد كانت الأندلس مسرحا للحروب بين المسلمين بسببهم، وكانت طليطلة طعمة للنصارى بسببهم أيضا.
قال ابوعبدالرحمن: والتدجين اصطلاح حدث في القرن السابع الهجري، ولكن المعنى الذي تم عليه الاصطلاح موجود منذ سقوط اول رقعة اندلسية في يد النصارى,.
وأقدم المدجنيين وأكثرهم كانوا في طليطلة وأصقابها، وهم قوم من المسلمين رئموا المذلة بعد سقوط الديار في يد النصارى، ولم يهاجروا الى بلاد المسلمين في الثغور الجنوبية، ثم في العدوة، فأقاموا في بلادهم مستذلين فجنوا على انفسهم أكبر جناية، ثم جنوا على حفدتهم كل الجناية بعد الاحكام البربرية، ومحاكم التفتيش وطمس هوية المسلم,, ورائد الحديث عنهم، وتوثيق اخبارهم عمدة مؤرخي الأندلس المعاصرين محمد عبدالله عنان، ويرى ان المأخذ من دجن بمعنى أقام.
قال ابو عبدالرحمن: بل المأخذ اسوأ من ذلك، فهو يعني تربية وتسميناً وتوطيناً للانتفا والقنية!
ويرى الأمير شكيب أرسلان رحمه الله وكتابه انشائي هزيل مبتسر عار من التوثيق - ان التدجين من التأليف والتأنيس.
قال ابو عبد الرحمن: هذا نتيجة للمعنى في المعتاد، وليس هو المعنى ذاته.
واكتسب مصطلح التدجين معنى معماريا، وهو استحياء كل أثر عربي في العمارة والزي، لان هؤلاء المدجنين بطبيعة الحال حافظوا على تراثهم,, وطليطلة أكثر مدن الأندلس اليوم حفاظا عل شكل العمارة العربية في المباني الحديثة، فهي بلد المدجنين بهذا المعنى.
وها هنا شكلان:
الأول منظر علوي لمدينة طليطلة يطل على أحيائها القديمة.
والثاني نفس المنظر الا انه يطل على نهر التاج (التاخو) المحيط بها من ثلاث جهات.
|