مسرح ومردح في وصف ظوهر الغناء ومنبه طقس المسرحانية من تاريخ النجم لا وجوده,. محمد العثيم |
يكثر الحديث عن حفلات حاشدة لا يكون عمودها الفقري فنا راقيا او موسيقى تسمع او كلمة ندية بمذاق روح الشعر والغناء المسموع,, ويبدو ان تلك الحفلات مادة مطلوبة تحقق نجاحا في الحضور المتميز، ومنها ما تتدنى فيه الفنون لحساب مؤثرات الصوت والضوء (سينوجرافيا العرض) لكنها تحقق طقسها المسرحاني بما يشبه السحر مما يثير لغير المختصين الكثير من الاسئلة حول السر في تعلق الناس من عمر وفئة معينة باشياء مثل هذه حتى ان بعضها لا يصلح لحفلات عامة بل اكثر جودة لسماع منعزل خصوصا ما يكون وجدانيا رومانسيا,, ولكننا اذا ما استثنينا (الموسيقى الريفية الاجنبية) فان حتى الجانب العاطفي لا يتحقق في كثير مما يتهافت عليه الناس من مرتادي الحفلات وبالذات حفلات الصخب.
وهذا الناس النقاد والمقيمون للاعمال الفنية انطباعيا يعزون نجاحها للعجائب بعبارات مثل (ما يريده الجمهور) وهي احكام لا تسندها العلوم النفسية الاجتماعية بل لها تفسيرها العلمي.
والظواهر المعنية مختلفة وتفرضها سلوكيات خاصة لا يتصرف الناس مثلها وهم فرادى ومجموعات صغيرة او في جماعات العلاقات الاقرب التي لا يسيطر بها التوجه نحو طقسية تنبهها الحفلة العامة لا حفلة الروابط الخاصة,, بل تقود نفسها لغاية التفريغ النفسي العام ولها ظاهرة خارج السيطرة لم تكن هذه الحفلات الصاخبة والجماهيرية في بال المنظرين للاستفادة منها الا مؤخرا عند ظهور اساليب تجارية وفنية ادت الى جعل مثل هذه التجمعات الكبيرة ذات مردود اقتصادي وسياحي.
لذلك جنحت الاستثمارات في الفنون الى تصنيع آليات لفنون الجماعات الكبرى والغوغاء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بعد ان كان التصنيع في الفنون قبل ذلك في اوربا يتجه لعمل نخبوي فخم مبالغ فيه للاعمال الكلاسيكية والتاريخية منذ بداية العصر الباروكي وقبله.
اكتشاف مجالات استثمارات الجماهير في الفن والرياضة برز منذ الخمسينات على انه قوة لا يستهان بها وكانت البداية بمبادرات زعماء ما بعد الحرب الذين وجهوا اعلامهم الشخصي للعلاقات والتلميع الفردي الى الاهتمام بسلوكيات الجماهير والحشود بعد ان اكدت الدراسات ما اشير له في وصفيات الحال سابقا وقبل ذلك من تصرفات جماعية تختلف تماما عن اخلاقيات الافراد المكونين لهذا الجماعات وقد يبدو لهم كأفراد ان سلوكا من هذا النوع اما لا يليق بهم او انه مشين.
وسلوك الغوغاء وان بدا غريبا فهو ليس بالضرورة تدميريا وسيئا لكنه يتخذ الطقس المسرحاني بانفعال شديد متطرف الى الضحك والبكاء وحتى حركة الجسد العنيفة كما في حفلات (الروك إن رول).
وبدع مماثلة مثل (البريك دانس) وغيرها وهذا الاجراء تفريغي بهدف جماعي غير قصدي لكنه يولد في الاجراء نفسه لا خارجه وتدعمه خبرات سابقة من منبه العرض.
على سبيل المثال ما الذي يقدمه مطرب متواضع رديء الغناء والحركة والتصرف لجماهير حفلات ابها او جدة الموسيقية لتستقطب هذا الانفعال مع ان الفنان غير مسموع ورديء كلمات الاغنية ومتواضع في مساحة طبقة الصوت ويقدم سلوكيات جماهيرية قد لا يوافق عليها شاب حسن التربية اقول باختصار ان هذا الشاب بصفته منبه العرض لا يقدم متعا آنية تجرفنا اليه وحفلته هذا الانجراف ونحن جمع منهمر الجواب لاشيء الان ولكننا هنا وعندنا له تاريخ يخصنا كأفراد لا يمكن حصره فقد اكون يوما في امسية كئيبة فسمعت احدى اغانيه وحيدا وانفعلت,, وقد تكون كلمة او كلمتين عبرت عن صدى في نفسي وقد اكون ألبسته شيئا مشابها من فعل قدمه لي فنان او منبه اخر واردت ان اسلك نفسي في الانفعال,, وقد تكون مجمل احباطاتي قد تراكمت في احزانه واوجاعه وافراحه واتراحه.
المسرحانية شرطها الطقس وليس فعل المنبه الاني نفسه في عالمه الحاضر لكن هناك مخاطر في كسر الطقس يعرفها المنظمون ويحرصون على تلافيها مهما كانت الحال وهي دخول عوامل افساد الحفلة وتشتيت العقل الجمعي وصرف الذهن الى الشغب للقصاص من فساد الحالة كما يحدث في مهرجانات عربية ومحلية وقد حدث هذا في مهرجان الغناء العربي في لبنان قبل عام وحدث في حفلة محمد عبده في مدينة جدة الصيف الماضي بسبب عامل الجو عندما فقد نوتاته الموسيقية.
والمسرحانية - على انها طقس - ليست بالضرورة مسرحا ولكنها اجراء مسرحي لطقس مسرحي لا يكمل شرط المسرح الارسطي او المعاصر لكنها تقدم حلا آخر لادارة التجمعات اذا احسن استغلالها ولكنها تأخذ من الارسطية باب المرئيات المسرحية ومن الموسيقي (أبيا) المولودي الموسيقي للعرض الغنائي ومن الرياضة التجمهر الكثيف وتحاول تعزيز كيان الحفل باتاحة المغريات كالرقص الجانبي المخطط او الطوعي وهنا تقدم المسرحانية الكثير مما يرضي مديري الحفلات ولا يقلقهم من الناحية الرقابية التي قد يسببها العرض المسرحي الذي يقدم قيما تأويلية, وهنا ارجو ان لا يفهم ان حفلات الغناء تكون عوضا عن المسرح ولكنها واحدة من حلول الحرب الباردة التي رأت في الاوبرا والوابريتات مواضيع إلقائية بصفات تأويلية وهذا التوجه السياسي في نصف القرن جعل الحكومات تدعم حفلات عامة, خذ مثلا فنانة مثل ام كلثوم وفنانا مثل الاطرش وغيرهم ممن كان له حضور اذاعي في ذلك الوقت فكان اللقاء به يعني ميزة غير ميزة اللقاء بنجم تاريخي في اذهاننا من الاذاعة, باختصار قد تكون حفلات الجماهير تطورت على حساب الفنون النخبوية التي تراجعت كثيرا وحتى الدراما المسرحية التجارية لا تحقق الكثير مما كانت تحققه.
|
|
|