إن ذلك البيات الشتوي المزمن الذي يلف حياة جوناثان، لا يترك له من الذكريات سوى القليل جدا، وهو بهذا رجل بلا ذكريات، رجل بلا حاضر، إذ لا يمكن ان يكوّن الذكريات إلا من يستطيع ان يعيش الحياة, لكن ثمة ذكرى أساسية تعود الى أوائل طفولته، يستعيدها وهو أسير سطوتها وحزنها، وهي بمثابة المفتاح الأول لشخصيته، قبل أن تدخل تلك الحمامة المرعبة حياته.
من أسوأ الأحداث التي يتذكرها: في عصر يوم صيفي من عام 1942 كان عائدا الى المنزل من صيد السمك، في ذلك اليوم الذي هبت فيه عاصفة أمطرت بعد طول جفاف، فخلع حذاءه ومشى بقدمين عاريتين على الاسفلت الدافىء، حيث كان التوثب في تجمعات الماء الصغيرة التي يشكلها المطر على الأسفلت إحدى أكبر المتع عنده، عاد للبيت مسرعا الى المطبخ آملا ان يجد أمه وقد حضّرت الطعام، إلا انه لم يجدها، لقد اضطرت للسفر قال له أبوه، اما الجيران فقد قالوا شيئا آخر.
إن هذه الحادثة سلبت جوناثان طويلا أهم متعة في حياته: ان يخوض في برك الماء والطين، وهكذا يلزم جوناثان ثلاثة أرباع عمره كي يستطيع استرداد متعة بسيطة وبريئة كهذه.
لذا، فإن الحمامة هنا، ليست سوى ذريعة فنية وواقعية لمغادرة العالم الضيق له.
المفاجأة التي نكتشفها حين ينطلق جوناثان في الشوارع، بعد ان يقرر استئجار غرفة في فندق حتى رحيل الحمامة من ممر غرفته في ذلك المبنى المكون من ست طبقات يسكنه الخدم، المفاجأة ان المشهد الوحيد العالق بذهنه، يتمثل في صورة أحد المتشردين الذي رآه مصادفة ذات يوم وأصبح محط اهتمامه: لم يكن ذلك المتشرد يبدو يوما معكر المزاج، حتى في الايام التي كانت فيه قلنسوته تخلو من اي مال، لم يكن يبدو عليه أنه يخاف او حتى يمل, دائما تنضح منه ثقة بالنفس ورضا مثيران للغيظ, لقد كان يمثل تجسيدا استفزازيا لجاذبية الحرية وسحرها, هكذا يصفه جوناثان, ولذا فإن ذلك المتشرد سيكون الاختبار الثاني الذي سيتعرض له بعد اختبار الحمامة, خصوصا وأنه الصورة المعاكسة التي يرسمها لنفسه ويعي معناها: لقد انتهى أمرك يقول لنفسه ما أنت إلا كهل ميؤوس منه، إنك تسمح لحمامة ان ترعبك حتى الموت! حمامة تقذف بك، تطرحك أرضا وتجعل منك سجينا! سوف تموت ياجوناثان، سوف تموت، إن لم يكن الآن فقريبا, كانت حياتك كلها خطأ، لقد أفسدت حياتك، كلها، حياتك، التي تزلزلها حمامة.
لكن خوف جوناثان من العالم الخارجي، يعود ثانية حين تنقلب صورة المتشرد من رجل حر الى رجل محتاج، إن الحاجة هي ما يحدد معنى حريتنا ومداها، لكن الأمر يأتي هنا أيضا من أبسط الأمور، بل من أكثرها تفاهة، حين يبصر جوناثان هذا المتشرد في الشارع مضطرا لقضاء حاجته امام الناس, ان عدم وجود ملجأ للبشر في لحظة ما هو ما يفزع ويزلزل روح جوناثان بلا حدود، وحين يصل الأمر الى شيء طبيعي وبسيط يتمثل في قضاء الحاجة، فإن الأمر يصبح اكثر مأساوية, هكذا يصعِّد باتريك زوسكيند من مأزق بطله، ويجعله فريسة خيارين قاسيين البقاء في الفندق الى ان تنتهي نقوده، ثم العيش في الشارع او العودة لتابوته غرفته رغم الحمامة، غرفته التي يصفها كالتالي: مساحتها ثلاثة أمتار واربعين سنتمترا طولا، ومتران ونصف المتر عرضا.
ان مشهد المتشرد عاريا امام الناس هو ما يعيد في الحقيقة صياغة فكرة جوناثان عن الحرية، ولست أدري إذا ما كان باتريك زوسكيند يكتب هنا رواية يعارض فيها الرواية الشهيرة (النورس جوناثان) حيث يتمرد ذلك الطائر على قانون الجناح الذي تحول الى مجرد قدمين بدافع الحاجة والقناعة المكبلة، ويذهب في رحلة طويلة حول الأرض محاولا ان يتيح للجناح فرصة بلوغ مداه, هنا يبدو جوناثان المدينة الكبيرة عكس ذلك تماما، ففي لحظة غضب ينظر الى الناس الذين يعيشون حياتهم في الشوارع والمقاهي ويفكر: ألا يكفي ما في الهواء من روائح نتنة ألا يوجد ما يكفي من الضجيج في هذا الشارع وهذه المدينة بكاملها؟ أنتم رعاع مجرمون، نعم يجب جلدكم ثم القضاء عليكم، يجب إعدامكم رميا بالرصاص، كل على حدة وجميعكم معا، أوه، وتتملكه رغبة في أن ينتزع مسدسه ليطلق النار في اتجاه ما, ويضحي لون السماء في نظره أزرق ورماديا كلون حمامة.
لذا، فإن انحدار جوناثان زوسكيند يصل الى اقصى حد له حين يتمزق بنطاله، ويكشف جزءا من جسده، فتتحول محنة المتشرد لتكون محنته: بالفعل كان يشعر وكأنه جريح، وأن الشق الذي انفتح بطول اثني عشر سنتمترا لم يكن في سرواله وحسب بل في جسده أيضا، يتدفق منه دمه وروحه التي مازالت تتابع دورتها المغلقة في داخله، بدا أنه سوف يموت متأثرا بجرحه اذا لم يتمكن فورا من معالجته وإغلاقه.
إن هذا الحس الذي يرزح تحته جوناثان هو الذي يقوم برده الى أصله، وإعادته الى غرفته التابوت، إذ يرى بعد ما حل ببنطاله: ان لا شيء أكثر إيلاما من الاضطرار لقضاء حاجته في الشارع العام أمام أعين الناس؟ الحاجة، إن اسمها وحده يفصح عن المعاناة، حينها أدرك جوناثان ان جوهر الحرية الإنسانية مرهون بامتلاك مرحاض مشترك كالذي يمتلكه في منزل العمال وعندما وصل الى هذه الحقيقة: أحس بانه يقف على أرض صلبة أمام أبواب البنك، منتصبا وشامخا تماما كتمثال منحوت من الصخر او مصبوب من المعدن,, منذ ذلك الوقت لم يعد هناك شيء يمكن ان يهزه، او شك يمكن ان يزعزعه,, ولم يعد هذا المخلوق يثيره.
تتحرك رواية زوسكيند في تلك المساحة الصغيرة التي تفصل الكوميديا السوداء عن جوهرها التراجيدي ، فمن الصعب على المرء هنا ان يتصور حياة يقوم معناها في النهاية ومعنى الحرية فيها على وجود مرحاض، ولو كان مشتركا، ان تلك النتيجة هي اقصى حد للانسحاق الذي يمكن ان يفترش الروح الإنسانية، في قرن كهذا, ولذا يمضي زوسكيند ببطله، نحو المعنى الواقعي المحكوم بالضرورة، بدل ان يذهب به نحو معناه الرمزي العبثي, ولسنا ندري هنا ما اذا كان زوسكيند يكافىء بطله حين يعيده الى غرفته ويجعل مطر تلك الليلة التي امضاها في الفندق يغسل روحه ام أنه يعاقبه.
فما ان يطلع الصباح حتى نرى جوناثان وقد حزم حقيبته عائدا إلى غرفته، رغم الخوف الذي ينتابه من ان تكون الحمامة لم تزل هناك, ولكن في الطريق الى الغرفة يحرره الراوي من كل ماضيه، وفي ذلك ما ينبىء عن محاولة طيبة النية لترميم روح جوناثان: لقد أمطرت طوال الليل، فخرج باكرا، وراح يقفز وسط برك الماء: راح ينط في وسطها، وهو يمشي بشكل متعرج من بركة الى أخرى، حتى إنه غير في إحدى المرات جهة الشارع وعبر الى الرصيف المقابل لأنه رأى هناك واحدة جميلة بشكل خاص وكبيرة، فقفز فيها وسقط عليها بقدمين مستقيمتين، بعثر ارتطامها الماء وبلل واجهات المحلات والسيارات المتوقفة، كما تبلل سرواله، لقد شعر بمتعة لذيذة، وتمتع بهذه الحماقة الطفولية وكأنه استعاد حريته المطلقة.
بهذا المشهد يعيد زوسكيند ربط طرفي روايته، بدايتها ونهايتها، ويعيد المتعة الوحيدة التي يفخر بها بطله اليه، يعيده الى طفولته ثانية، لكنه بالتأكيد لن يعيد له ثلاثين عاما عاشها كخلد أو أقل.
ربما تكون شخصية جوناثان مسحوقة الى حد لا يسمح معه الكاتب لنفسه ان يسحقها أكثر، ولعله لو اراد ان يفعل ذلك، لنقل الحمامة من باب الغرفة ليضعها أمام باب الغرفة الثانية التي هرب اليها جوناثان: غرفة الفندق الأضيق والأكثر مدعاة للكآبة,لو فعل زوسكيند ذلك، لظفرنا برواية أخرى، مختلفة، رغم ان ما كان يمكن ان يتغير فيها هو السطور الأخيرة لا غير.
لذا فإن السؤال الذي يتبادر للذهن: هل كانت الحمامة حبل نجاة، ام كانت الكتلة المعدنية التي تشهد الروح نحو غرقها بتسارع أكبر، هل فتحت نافذة للضوء ام نافذة للظلام؟ حين اعادت جوناثان الى طمأنينته التي يحس من خلالها بمعايير الرجل السعيد، لمجرد انه: في باريس صادفه الحظ مرتين، مرة حين وجد عملا بوظيفة حارس بنك، والمرة الثانية حين وجد مأوى في إحدى ما يسمى بغرف الخدم في الطابق السادس.
بقي ان نقول هنا ان باتريك زوسكيند عمل كثيرا على التفاصيل التي تحيط ببطله، وهذه واحدة من سمات الرواية القائمة على فكرة العزلة بشكل عام، إذ يغدو العالم الصغير هو العالم كله في نظر الشخصية التي تعيش فيه، وهكذا تقوم الشخصية بتعبئة الفراغ المحيط حولها بالانشغال بتفاصيله، كي تكون هذه التفاصيل عديدة بما يوحي بنفي العزلة وبما يؤكد فكرة الاكتفاء.
|