Sunday 26th September, 1999 G No. 9859جريدة الجزيرة الأحد 16 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9859


على الهامش
بين غرور الشاعر وتواضع السارد
حسين المناصرة

الابداع عموما حالة تشعر المبدع بانه يمارس حياة لها فوقية قد لا يستطيع ممارستها اي شخص آخر عادي وهنا لابد ان يشعر كل مبدع مهما كان نوع الابداع الذي يمارسه بانه مختلف، وقد يكون ابداعه قصيدة شعرية، او اتقان طبخة في احد المطاعم المشهورة، وقد يكون رواية، او صنع موديل ملابس,.
وهكذا حتى تغدو مسألة الابداع لها صفة انتاجية حياتية, اذ يمكن للكل ان يبدعوا بطرقهم الخاصة الى حد انهم يمكن ان يبدعوا في الاستهلاك بطريقة تجعل عملية تناول الطعام، مثل عملية القراءة، تحتاجان الى تكنيك ابداعي.
والمهم في نهاية المطاف ان تنويعات الابداع هذه تجعل من كل شخص لابد ان يشعر بانه ابدع بطريقة ما حتى وان كان هذا الشعور على طريقة القرد في عين امه غزال .
ولعل كون مقولة القرد في عين امه غزال مقولة مبررة وذات بعد انساني حميمي امومي ولكن يتوجب على هذا القرد وعلى امه ايضا بان يكتفيا بالعلاقة الحميمة بينهما وألا يفكرا بان يصير القرد غزالا في عيون الآخرين ولو مارسا هذه الحالة لجلب القرد لنفسه ولأمه المسكينة المتاعب اذا صار يردد في مجالس الآخرين: انا غزال,, انا غزال,, انا غزال,, فان سكت الاخرون لاجل احترام مشاعره ومشاعر امه مرة او مرتين او حتى ثلاث مرات,, وربما اكثر اذا كانوا من طويلي البال,, او استأصلوا المرارة,, فلا بد ان تطوف كلماتهم المقموعة في اعماقهم وقد تصبح جارحة او قاتلة.
هذا علما بانهم قد يمارسون وراء القرد مقولاتهم وتندراتهم ,, لانهم لا يرون فيه الا قردا,, ومعنى هذه الرؤية القردية ليست شتيمة ,, وانما هي وصف الاشياء والكونيات بصفاتها، واعطائها سماتها التي لا تعني في اي حال من الاحوال اتباع غرور القرد او السخرية منه.
حتى الغزال نفسه، ليس جميلا، او رشيقا او مقنعا للآخرين بسبب سذاجته وضعفه تحت ظروف زمكانية او نفسية معينة، بل قد يبدو القرد اكثر منه جمالا وابهارا، وتنويعا لحركاته في ظروف اخرى، لذلك تصبح المسألة الرئيسة الحيوية هي مسألة ان يتواضع كل منهما تجاه نفسه، وتجاه تكوين نظرته للآخرين وتجاه تقبل قدرات تفاعل الآخرين معهما.
والمسألة، ايضا، ليست في تفضيل الغزال على القرد، او تبني القرد لجمالية الغزال, بما تحمله هذه الفلسفة من جمالية نسبية يفهم في ضوئها حسن الاشياء او قبحها بقدر كونها مسألة فلسفة الغرور والتواضع هذه الفلسفة التي تحكم علاقات الحياة كلها وتُطبّع وحشية الناس فيما بينهم,, وغالبا ما كان الغرور مهلكة ما بعدها مهلكة,, اذ يؤدي باصحابه الى الهاوية، مثل ما تحمله حكايات الصغار عن : الطاووس المغرور ، والغزال المغرور، والقرد المغرور، والاسد المغرور، والثعلب المغرور، وهلم جرا ومع كل قصة لابد ان يكون التواضع هو الذي نجح في النهاية لانه قيمة الحياة الحقيقية ومنبع توازنها وركيزة حلمها.
واذا كان الحديث هذا عن الغزال والقرد فليست هنا الثنائية تعني بأية حال من الاحوال ان الغزال هو الشاعر المغرور، وان السارد هو القرد المتواضع، وبالتالي يفهم غرور الغزال من حسب شكله، وتواضع القرد من قبحه النسبي كما يفهم غرور الشاعر من سلطة الكلمة الشعرية التي ارتبطت بوحي الشعراء او شياطينهم وتواضع السارد من شعبية الكلمة السردية التابعة من حياة الناس,, اذ لو اخذت المسألة بهذا الشكل لوقعنا في حيص بيص وفتحنا الباب على شراعه للتناظر وذكر الفضائل، الى حد اقتناع كل انسان في حال التقابل مع الآخر انه الافضل والاجدى والانفع ومن يقرأ المحاورة التي اقامها فرح انطون في مجلة الجامعة في بداية القرن العشرين بين الانسان والحمار، يدرك كيف اصبحت كلمة انسان تعني شتيمة ما بعدها شتيمة من وجهة نظر الحمار الذي حمد الله على حمرنته المتفوقة على أنسنة الانسان الذي لم تكن حجته مقنعة في اثبات غباء الحمار الصفة شبه الوحيدة التي رددها الانسان في المحاورة حتى غدا غبيا، واذا بالحمار هو الاذكى والاكثر صبرا وتواضعا وانسانية في نهاية المطاف.
اقول هذا الكلام كله، لأنبه الى حقيقة واحدة، وهي انك لابد ان تتواجه مع كثير من الشعراء الذين تشعر تجاههم بانهم جبلوا من طينة غير طينة البشر ، وان الكثير منهم اخذوا نرجسية المتنبي، وانهم يعتقدون في ذواتهم حالات نادرة وجدت بالصدفة في الحياة وان بعضهم يعد نفسه اكبر قيمة في الوجود تستحق ان تكون الشعلة,, وانهم غرباء عن الشوارع التي يمرون بها، اذ من المفروض ان تكون لهم شوارعهم الخاصة في الفضاء على اعتبار انهم وحدهم من يحس ويتأثر ويقطر كلمات يجدر بها ان تكتب بماء الذهب في كل صالون ومدرسة وعلى واجهات البيوت والكلام هنا بكل تأكيد هو المبالغة بعينها في تصوير غرور بعض الشعراء.
ومع اننا في هذا الزمن لسنا في زمن الشعر، كما كان في الماضي ديوان العرب وعرسهم، فان الكثير من الشعراء يشعرون بان الواحد منهم مازال هو ديوان العرب لوحده، بعيدا عن كل الشعراء الآخرين، والمسألة ليست واحدا او اثنين او ثلاثة وانما الكثير منهم,, بما فيهم شعراء طلاب المدارس,, وامتدادا الى محمود درويش الذي ما ان تجالسه لمرة واحدة في حياتك حتى تشعر انك اغتسلت بنرجسيته حتى الاختناق، لذلك لا تطيق الجلوس مع شلة حوله اكثر من عدة دقائق، كافية لإماتة احساسك بالحب نحوه ان كنت ممن يتمتعون بروح التواضع، رغم اعجابك بشعره.
والساردون الذين من حقهم ان يكونوا طاووس الزمن المعاصر، من حيث كون الزمكانية المعاصرة زمكانية السرد، تجد في اغلبهم سمة التواضع الى حد غياب ايمانهم وثقتهم بما يكتبون وانهم يحتاجون الى ان يتطوروا اكثر وبالتالي من الصعب ان تجد غرور الشعراء عندهم، باستثناء من حرص منهم على ان تكون لغته لغة شعرية يمدد نفسه من خلالها تمديدا طاووسيا يجعله يهمس عند الشعراء بشعريته ويتعالى بها بين الساردين.
ونهاية: لابد ان تكون المسألة ذات توازن لذلك يشعر بعض الذين كتبوا الشعر والسرد معا انهم أكثر توازنا في المواءمة بين التواضع والثقة بالذات، على نحو تصبح الثقة بالذات بدل الغرور والاستعلاء، ويصبح التواضع سمة خلقية,, سمة,, تنبذ الشخص الذي يكتب قصيدتين؛ ليجعلهما اهم من الشعر العربي كله,, وكذلك قد يكتب قاص مغرور قصتين فيعدهما بداية للقص الفني,, ولا نريد ان نقول مين شايفك يا رقاص العتمة ففي زمن الفضائيات والانترنت والتقنية قد يشعر اغلب المبدعين الجيدين بانهم زامر الحي الذي لا يطرب في عيون الآخرين!!.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
اليوم الوطني
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved