عندما يتكلمون، كانوا يتهامسون فيما بينهم بأشياء غير قابلة للفهم، ويستخدمون لهجة خاصة ببعض قبائل البدو, لم يكن يفترض بالخدم ولا بالموسيقيين ان يفهموا, كانت لديهم رموزهم الخاصة بهم, لكن الجميع كانوا يلمسون الاحتقار والرغبة المجانية بالإذلال وراء كلامهم, كان الخدم ينفذون مهمتهم بصمت, فهم يدركون أنهم يتعاملون مع أناس من نوع خاص.
***
لم يكن الاعتراض الذي نشره المستغربون الطاهر بن جلون، مغربي الجنسية، وعادل رفعت، مصري يهودي؛ وبهجة النادي، مصري مسلم، في جريدة فرنسية الشهر الماضي ضد ترشيح الدكتور غازي القصيبي لمنصب مديرعام اليونسكو إلا كنتاج طبيعي للانفصام الفكري الذي يعيشه المثقف العربي بشكل عام، واولئك الذين تغربوا وانسلخوا من هويتهم التاريخية بشكل خاص.
هذا الانفصام نابع من عدم قدرة المفكر العربي على الجمع بين التنظير والتطبيق تارة ومن عدم قدرته على التخلص من بعض النعرات التافهة التي تجعله يتمحور حول ذاته واقليمه تارة أخرة.
فمثلا، اكتسب المغربي بن جلون سمعته الأدبية في الأوساط الفرانكفونية بعد ان مارس دورا استشراقيا قدم فيه للقارىء الفرنسي على طبق من ذهب العديد من الأعمال التي ترصد الجانب المشوه في الثقافة التي ينتمي اليها وخير دليل على ذلك العنصرية السيئة التي يمارسها ما جاء في النص المقتبس أعلاه في الوقت الذي يحارب فيه العنصرية في فرنسا ويستميت من أجل الحصول على هوية جديدة يقبلها الشارع الفرنسي، ولكن أني له ذلك وهو ينتمي الى نفس الثقافة التي سعى هو بنفسه الى تشويهها في نصوصه, هذه الازدواجية المتضادة في المنطق هي مشكلة المثقف العربي.
أما الكاتبان المصريان فيكفي ان نعرف أنهما لم يبوحا باسمهما في نص الرسالة الاعتراضية التي نشروها وانما استخدما اسما حركيا يدل على سوء مقاصدهما، ولعل ذلك يفسر الجانب الآخر لحالة الانفصام التي يعيشها المثقف العربي وهو الانتصار لابن جلدتهما مرشح بوركينافاسو اسماعيل سراج الدين الذي تراجع عن انسحابه في آخر لحظة بعد ان اتضح له التأييد الكاسح للقصيبي.
هؤلاء يتصرفون كما لو كان القصيبي هو المنافس الوحيد على هذا المنصب رغم ان القائمة تشمل مرشحين أقوياء آخرين مثل الياباني ماتسورا إلا ان هذه الحقيقة لا تعني لهم شيئا؛ المهم هو ألا يكون القصيبي المدير العام القادم لليونسكو.
هذا التباين المؤسف في اتخاذ المواقف بين الكتاب العرب لم يكن الأول من نوعه اذ ما زال فريق الشام والعراق من جهة وفريق مصر من الجهة الأخرى,, ونستطيع ان نضيف فريق المغرب العربي الذي يمثله بن جلون كطرف ثالث يمارس دور الوصاية على الثقافة العربية متناسين ان الوقت يمضي ولم يعد هناك مكان الآن للثقافة الأحادية التي تتمركز حول ذاتها مهمشة دور الأخرين.
الشيء الذي يجدر ذكره ان هؤلاء الكتاب لم يتعرضوا لسيرة القصيبي الشخصية وتجربته ومؤهلاته ومدى مناسبته لهذا المنصب، وهذا دليل آخر على غياب الموضوعية في طرحهم الفكري إذ ان الشخص نفسه، وليس أي شيء آخر، هو المعيار في مثل هذا الموضوع، كما أنهم لم يجدوا في تجربة القصيبي الثرية ما يمكن ان يستخدموه في التقليل من فرص فوزه بهذا المنصب.
بعد اغلاق باب الترشيح لمنصب مدير عام اليونسكو ومع اقتراب العد التنازلي لاعلان المدير العام الجديد لها يتضح ان القصيبي والياباني ماتسورا هما المرشحان القويان لهذا المنصب، بينما يقف اسماعيل سراج الدين خلفهما مدعوما بتواقيع حملة جائزة نوبل وعلى رأسهم نجيب محفوظ!.
ترى، ما الذي يمكن ان تؤول إليه هذه المنافسة؟.
هل سيكسب القصيبي الجولة هذه المرة أم أنه سيكسبها أيضا عندما يخسر؟!.
|