ان الاسئلة التي تذهب بعيدا في الكشف عن كينونة الكائن، وعن قلقه امام الوجود، هي ذاتها التي تسللت الى نص جاسم، فالكشف عن دلالة التعاضد المعرفي يضعنا امام تلك الذات التي لم تبرح في صيرورة متدفقة من سؤال الى اخر، ومن يقين الى نقيضه ومن انطفاء الى توهج فهي - اذن - تمارس اندفاعها صوب الاخر فيها، وصوب البنى المعرفية المتجلية في حياتها، وكما ان هذه الاسئلة لا تمثل - اطلاقا - انعكاسا مشوها لثيمات الاسئلة الكبرى في النص الصوفي .
وانما هي تمثل انعكاسا محايثا تضفي على نفسها من اشكاليات الحاضر اليومي، ما يجعلها اكثر تعبيرا عن واقعها الراهن، واكثر مصداقية في التقاط معضلات الروح المعرفية والثقافية التراثية فاذا كانت هي (الاسئلة) كذلك فان اجوبتها، لا تشكل سوى ولادات لاسئلة متفرعة منها ومتنوعة عليها، ولادات متجددة، لا تنزع في تحولاتها الى الاحتماء خلف جاهزية المعنى، وخلف منظومات القيم والمفاهيم التي يبثها مجمل التراث سواء كان الصوفي منها او الثقافي بمعناه العام والاشمل، وانما ما يبتكره النص، ويخترعه ، هو اسئلته الخاصة واجوبته المجازية تدفعه رغبة التأمل الوجودي التي تأخذ النص الى حيث عريه الكامل قبالة ذاته، وقبالة الوجود بما تحمله من ادوات تجادلية، تتأرجح بين الاستلاب والارتداء وربما يكون نص (رقصة عرفانية) ونص (استقالة الظل) هما الاكثر تمثلا واحتواء ، لمثل تلك السمات ، وان كانت هناك نصوص، تطفر منها مثل تلك السمات، ولكن باحتواء اقل وبشكل عرضي، يفاجأ النص في اغلب الاحيان او ينزلق بين جملة شعرية كمفردة متداعية:
أسأل الافاق عما خلفها من سري الفتان
عد لاعماقك يا (هارب).
فتش قيعة الذات
واياك وان تبحث عن معناك في السطح
فمفتاح المعاني مودع في اسفل القيعان
او: لم ازل في رحلتي
اصغر من ان افهم المشي
او : تائه ابحث عن بوابة
تدخل بي في اللانهايات
فقد حاصرت بالارقام عمري
او: لم افهم طقوس العزف.
لا يمكن ان تشكل هذه الاسئلة المحقونة بأفق اللامحسوس، الملاسة الحقيقية لاسباب وجودها وعلة انبناء دلالاتها في النص، دون ان نبحث عن تمفصلاتها في مناطق اخرى مغمورة داخل النصوص وهنا تكمن عوامل التماسك السياقي الشعري التي تتسم به معضلة سؤال الوجود/ الذات وينبغي ان نتأمل بعمق - في الجمل الشعرية التالية - تأزم الانسان تاريخيا وانطولوجيا:
مازلت في غاية البدء
احرس بئر الرموز القديمة
أو: وكان دمي يترصدني في ممر الهواجس
محتقنا بالمواريث
,, كيف اراوغ اسلافي الساهرين على دورة الدم؟!
كيف اضخك عبر الشرايين.
ذرية تتناسل برقا ورعدا وزلزلة وانفجارا
او: وكان ابي وراء الستار الخرافي
يصقل مرآته بالحنين.
ويرتق بالوهم ثقبين بين ثقوب الستار
ان قوة التعبير الجمالي السابق لا يكمن فقط في التكثيف الشعري الذي يحوي وعي الذات بوجودها، وبعلاقتها مع ذاتها الاخرى، وانما يكمن - وهنا الانعطافة الاهم التي ترشح بها تجربة الصحيح في هذه المجموعة - في شحن الصورة الشعرية بدلالات حسية مكثفة تنبئ عن تحولات شعرية، يمكنها ان تجعل الصحيح من كونه شاعرا ميتافيزيقيا بامتياز، الى شاعر يتخفف من ضغوطات الماضي الذاكرة/ الموروث.
مجمل القول: ان تحولات المفردة عنده اتسمت بارتياد مناطق اكثر حركية وديناميكية فاذا كانت الذاكرة مهيمنة وبقوة في مجموعتيه السابقتين، فهنا نجد خلاف ذلك مجادلة ضد الذاكرة ومقاومة لهيمنتها ومحاولة اختراقها بضغط وتدفق الاسئلة الجادة عليها من جميع الجهات ، لكنها محاولات - كما اشرنا سابقا - لاتشرع ابوابها بما يكفي على مكنونات اللغة واسرارها، بل تظل الابواب مواربة، وتتقدم على استحياء وخجل.
|