*المحور الثاني: الدفائن والتشكيل الفني
(أ)فسيفساء المكان
تدخل الدفائن في تشكيل صورة المكان بشكل حاد حتى ليمكن القول إن معظم الاماكن في قصص الشمري يستدعيها من الماضي ويلونها بدفائنه فتبدو كما لو كنا نعيش المكان واقعاً ملموساً, ويبدو المقهى في قصة ابي والقوافل مختلفا عن كل المقاهي، جدرانه متداعية اريكته بالية (مقهى حقير يتداعى حتى ترقص على انقاضه فلول الخيبة) (1) ، لايوجد به احد، لاخدم ولاصاحب المقهى نفسه!!.
إن المبالغة في رسم قبح المكان قد تخفي وراءها رغبة مكبوتة في تجسيده الحقيقي، في اعادته الى الحياة بعد ان كان مجرد دفينة تسكن في اعماق الكاتب, ان استدعاء مكان تراثي -مقهى مهمل- بهذا الشكل يؤكد هوية الكاتب الذي يفكر من خلال موتيفات الماضي.
وهناك جملة من الصفات التراثية التي تستدعي ابعاداً جديدة في تشكيل المكان الراقد في المخيلة في مثل هذه الصورة الظل حقير,, والتلال عارية والهمم وضيعة والمستنقع موبوء وزرقته مميتة (2) , انه هروب آخر من المكان المعاصر وبحث عن المكان النمطي الذي يهواه الكاتب لان فيه ذكرياته وطفولته، هي نفس الخطوط والالوان للفسيفساء العربية التي تتكرر فلا نمل من تكرارها لانه نوع من الجمال نهواه ونحنّ اليه.
والشارع الطويل في قصة اكتفاء بالشرود (3) ليس مجرد شارع، انه (شارع طويل، يحبل ويلد اناساً يشبهون المرضى والمقعدين, كل شيء تدحرج الى الوراء,, نحو القلق والثرثرة) (4) , انه استدعاء آخر لمكان ما في المخيلة يجسد الخوف ويشي بالسكون والكسل ضد طبائع العصر الذي نعيشه,, شارع آمن يفعل مايريد، يشوه الاجنة، ويخنق الحياة، لايصل بنا الى الهدف وانما يعيدنا الى لحظة البداية.
هذا شارع تراثي يختلف عن شوارعنا, المكان القديم يزاحم وجودنا لدى الشمري وينقض عليه ويرسم ظلاله البالية، يقول بطل القصة (شاهد التخلف بام عينيه والاهتمامات التافهة,, رأى الاطباء بلا طب والحقائب بلا دواء والمدينة بلاشمس تقتلع هذا السياج الداكن) (5) , وتتآلف صورة الشارع المشوه مع المدينة التي بلاشمس، الداكنة السواد, انه عالم اسطوري من قصص الاجداد عن مدينة الاشباح ومع ذلك يظل الكاتب في بحثه اللاهث عن صورة المكان القديم يستعيض بها عن واقع يرفضه.
والطريق السريع تصوير اسطوري يستدعيه الكاتب من دفائنه، يقول عن هذا الطريق ,, وساعة ان يكون في اوج جريانه كنهر وتدفعه كسيل هناك ما يجعله يزور، يختنق كأفعى اسطورية في وسعها ابتلاع خيول بكاملها، ليس لديه اية قدرات اضافية ليهضم هذا الكم الهائل من الحديد اللامع، الملون الصقيل انكر الشمري السيارات والمركبات الفاخرة، صارت حديدا -مجرد حديد- لامعا ملونا، وبدا الطريق كأفعى تحاول ابتلاع كل هذا الكم الهائل من الحديد,, اكاد المح حكايات جدتي من هذا الكائن الخرافي الذي يبتلع كل شيء، وكأن جدتي تخيفنا من تصوير قدراته والخوارق التي يأتي بها, انه الغول ولو حسن الخرافي الذي يدمر كل شيء في طريقه, مرة اخرى يهرب الكاتب من تصوير الطريق السريع بشكلة الحضاري - الواقعي- الى شكل اسطوري يجثم فوق الانفاس، ويصبح دوره تعطيل الحياة ووقف هديرها الصاخب,, لقد حاول الشمري ان يجرد المكان المعاصر من كل رغبة فيه او حاجة اليه، من جمالياته وتجلياته في الواقع،واستدعى له من مخزونه القديم الآسر مايجسد الصورة القديمة التي يحن اليها مهما رأى من وسائل التمدن والتحضر.
وهناك اماكن قديمة لها حضورها المكثف في عالم الشمري القصصي منها غار الحجاج ,, داخل بؤس وعتمته انسه الخفي وتشظيات اصواتنا في جنباته,, (6) , مكان اسطوري بعالمه العجيب المتماوج، الغني بالخيالات، حول هذا الغار تنتصب الخيام ويكثر الزوار، رأى مرة نساء يخرجن من رماده، يرقصن ورأى رجالاً يصنعون القهوة,, يعلقون الذبائح (7) ,, تتجسد جماليات المكان هنا ويستدعى مصاحباته من زيارات ورقص وشرب القهوة,, إن الظاهرة الاجتماعية هنا لاتزول او تذوب يظل صداها متلبساً بالمكان، لصيقاً به، اجتماع الناس للزيارة ونصب الخيام والبهجة يؤدي حتما الى ولادة (الخرافة): نساء يخرجن من رماده، المكان مشبع بالدخائن يغمزه الكاتب من بعيد ليفترش مساحة كبيرة من المكان بألق الماضي ونكهة القدم, يبذل الكاتب مجهودا مضاعفاً كي يتجاوز عتبات هذا الكهف ، كهف تطرقه الحكايات وتصنع منه ذهباً ورقصاً وحيوانات أخرى,, جناً واشباحاً، وقصصاً يعلوها السعار والهلع وقبض الرياح,, (8) المكان هنا يجسد عالماً مجنونا من الحكايات والخرافات نهرب اليها احياناً من وقع الحاضر، اننا في حاجة لصناعة اسرار لحياتنا بعد ان كشف العصر الحاضر اسرارنا وهتك خبايانا، وفقد البيوت حراماتها وصارت على الهواء تنقلها قنوات البث الفضائي الى كل من يريد ان يعرف، واهترأت حبال الود بين الاسرة الواحدة وعاش كل منا في واد خاص به، انها محاولة لاضفاء لمسة اسطورية على حياتنا التي فقدت كل معنى, إن الهروب الى المكان التراثي يشكل هنا نوعاً من الاحجيات والالغاز التي نبحث عنها لنغلق بها حياتنا كسياج آخر من الاسرار, انها رغبة ان يصبح كل منا لغزا بعد ان فك طلاسم العصر ورأى على الانترنت مالاعين رأت وسمع ما لا اذن سمعت, هو نوع من الامان يبحث عنه الشمري، يتشبث بمكان قديم يوفر له قدراً من الحماية.
والظل: مكان تراثي آخر من دفائن الماضي،وهو مكان يتجسد في صورة انسان, إن له حضورا قويا، فهو يزهو بوعوده للقيام (9) وهو شيخ الراحلين، مرة يفر السواد واخرى يلقي بعتمة بادئة في رسم العلاقة بيننا , والظل يناوش الانسان ويناوره,,, اذ هو يشي للشمس دائماً ان تحرقنا وتغلي دواء روؤسنا,, لقد فقد الظل - المكان القديم- سلطته وراح عنه صولجانه بعد انتشار احدث البنايات والعمارات بأجهزة التكييف الحديثة، ولكن الشمري يترفق به هنا، ويهبه دورا كبيرا كان يلعبه في الماضي ويجسد به مكانا أثيرا كان يحمل الحلم والامل والحياة لاجدادنا من قبل.
اعطى الكاتب للمكان القديم دورا آخر، وبعثه من جديد وطالبه ان يمارس لعبته معنا، ويتحكم فينا وتظهر آثاره التي ضاعت مع معالم الحضارة, انه استدعاء يحمل الامل في عودة الماضي, الظل هنا يحمل اريج القدماء وعلاقات حميمة باتت فاترة باردة والمكان ليس مجرد ظل ولكنه معنى تراث، يضع في عباءته احلاما وردية وامنيات عذاب
صنعت منا رجالاً وكونت امة عظيمة يشار اليها بالبنان.
وخارطة الجغرافيا مكان آخر يستدعيه الكاتب، في قصة جغرافيا، في قوله خارطة الجغرافيا مشنوقة امامنا على الجدار,, اذ هي حل لتطوف اذهاننا بالقلق المدروس والاسئلة عن اصفرار وازرقان وخضرة ضاربة, اخرى فاتحة الالوان ونهاياتها,, تلك هي البحار والمحيطات والخلجان نهر وحيد يتلوى,, اودية فارغة ورمل عاصف مميت يوحي بالكآبة,, وطبقة ملونة بخضرة فاقعة قال عنها انها المراعي الخضراء,, والسهول,, بل ان الجليد ابيض ناصع لانعرفه,, (10) , الخارطة تحاول هنا احتواء اكثر من مكان، انها رغبة في استحواذ الانسان على اكبر عدد ممكن من الاماكن,, انها نوع من لعب الاطفال التي تغريه بامتلاك الواقع ولكنها ليست حقيقة، فكذلك الخرائط بالنسبة الينا توهمنا بامتلاك المكان ورؤيته ووضعه في حوذتنا وهو بعيد عنا جدا,, يلعب الكاتب هنا هذه اللعبة، يقدم الخارطة، يوهمنا بالامتلاك ثم يسحب منا صك الملكية ويقهقه عاليا في وجوهنا، انها لعبة قديمة من لعب اجدادنا، حين كانوا يحكون عن الجن والعفاريت والكائنات التي لها قدرة الانتقال من مكان الى اخر في غمضة عين, هو نفس المكان التراثي الذي كساه الكاتب ثوبا عصريا الجغرافيا ليوهمنا بدقة صنعته ونكتشف ذلك عن الكاتب نفسه الذي يصرخ قائلاً أللخرائط قدرة في تصوير قبورنا؟ وما يدريك لعلي ارى نصل سيف هوى؟ وغدارته وبقايا حصون اوت اليها النساء منذ زمن,, (11) , لاينتظر الكاتب من الخريطة - الحيز المعبأ بآلاف الامكنة- الا ان تقف له القبور وتريه نصل سيف جده وغدارته وبقايا حصون, يبحث مرة اخرى عن دفائنه حتى وهو يتطلع الى خريطة العالم, يبحث عن نفسه، عن مكانه هو دون ان يلتفت الى اماكن كثيرة لايريد ان يؤمن ان العالم صار قرية صغيرة بفعل الاقمار الصناعية, ان مكانا ما يخصه هو يحرك احاسيسه ويحاول تجسيده ويعاين طبيعته.
حاول الكاتب ان يصور المكان النمطي التراثي الذي يبحث عنه ويرقد في مخيلته واستخدمه كحفائر الالوان والاصباغ، كخطوط الفسيفساء العربية يجمل به حكاياته ويوزع الخطوط والبقع اللونية بمقتضاها على عالمه المكاني من معظم قصصه, ان زخرف المكان باللجوء الى الدفائن ملمح فني جديد عند الكاتب عبد الحفيظ الشمري.
(1)ابي والقوافل ص92
(2)نفسه ص93
(3)ص 125
(4)ص129
(5)ابي والقوافل ص127
(6)وتهرأت حبالها ص45
(7)نفسه ص47
(8)وتهرأت حبالها ص28.
(9)نفسه ص53.
(10)وتهرأت حبالها ص69-70.
(11)نفسه ص71.
*عميد كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا