Sunday 26th September, 1999 G No. 9859جريدة الجزيرة الأحد 16 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9859


تلويحة
أكان لابد يا لي لي
عبد العزيز مشري

* لم يكن الشتاء شحيحاً ببرده وسيوله، فقد اندثر ماء السماء على الأرض السبخة بشوارع وحارات مدينة الدمام فأحدث في العين والنفس مستنقعا موحلا لا يكاد يجف، وكانت لياليه تجمعنا - بعد العودة من الجريدة- حول مدفأة فقيرة الدفء بالغرفة الشعبية التي يسكنها زميلنا جبر المليحان ، وكان جبر حادا صلبا كالصخر - كما سماه آنذاك محمد الصويغ، رئيس تحرير الجريدة اليوم - وصفه بالرجل الصخري ، فهل رأيتم صخرا يتألم ويضحك ويبكي كالطفل,, هذا هو جبر الكاتب الفنان، والانسان قبلاً الذي يأوي الى دفء فراشه في الليل، وقلبه يتفتت تعاطفا على منظر اصاب عينيه لقطّة في الشارع ارتعدت حتى ماتت بردا وجوعا، وفي ذات الآن يكون قد أنهى مع مخرج الجريدة -البليد- شجارا حادا,, انه كالمسمار الذي لا ينثني في حق يراه مأخوذا بالشفقة أو الاستغفال، كنا نتحلق حول المدفأة حيث تبث نورا أحمر ولا تعطي دفئا.
وقتها ناولني مجموعة قصصية ليوسف ادريس بعنوان بيت من لحم 1974م، لم أقرأ لهذا الكاتب من قبل، كنت مفتونا بغادة السمان في كتابها لا بحر في بيروت ، وكان مصدر الكتاب من زميلنا عتيق الخماس اعارة دون ريب، فهذه عادة نشأت بيننا بحكم الزمالة.
إذاً,, قرأت بيت من لحم في طبعة قديمة تفصل كل قصة واخرى رسوم كاريكاتيرية بسيطة,, ثم تنازل جبر عن هذه المجموعة فحفظت بمكتبي، وقرأتها يوما بعد سنوات مرة ثانية، ثم ها أنذا بعد رحلة من قراءات للكاتب في مجاميع وروايات ومسرحيات متعددة,, قرأت بيت من لحم في الاسبوع الفائت,, فأعادت بهيئتها القديمة ذلك الشتاء الدَّمامي ، وفتحت نظري مرة جديدة وبصور جديدة.
* * *
تحوي هذه المجموعة الصغيرة - اثنتي عشرة - قصة، ليس هذا مهما، ولا عنوان المجموعة أو غلافها,, أو غيره من الشكليات المتممة، لعناوين ومضامين القصص الداخلية، ومع أن الكاتب الحذق على ما يبدو -شديد الحرص- على اختيار عناوين قصصه بحيث لا تتفاوت عن المعنى المضموني الظاهر للكاتب، دون أن يبدد فيه القارىء، إلا أنه بذكاء كاتب يلملم حالة أو حالات العالم الذي تتناوله القصة في نظرة واحدة خاطفة,, ثم يضعهم بعناية في صندوق متحفي يحمل عنوان العمل.
أما وانك تبدأ مشوارك في قراءة القصة ولنقل أكان لابد يا لي لي ان تضيئي النور ,, كم ستسأل حتى تتعرف على اجابة حول لي لي !، وما علاقتها بإضاءة النور؟ ومتى، ولماذا النور واضاءته تحديدا، وما علاقة هذا العنوان التساؤلي بما يطرح في العمل، وما نوع الشخوص الذين تعلق بأحوالهم النور المضاء الذي أضاءته لي لي ,, آه يا لي لي,, هكذا صرخت في آخر القصة بعد قراءتها، آه يا,,,, يا يوسف ادريس!.
ان قصة لي لي البنت المدللة التي ولدت عن أب انجليزي كان يعمل بالجيش، فتزوج أمها لاعجاب شكلي وولدت لها لي لي تدليلا واختصارا لاسمها، البنت التي تعلمت من أمها شطارة ادارة الحديث ومخاطبة المعلمين، وحذاقة العين عندما ترمش، وعندما تفتح نصفا، وعندما تسبّل رموشها، وعندما,, وعندما.
يتوفى الأب، وتبقى الزوجة الأرملة تعيش على معاشه الذي تتسلمه، كل أول شهر من السفارة البريطانية، يرحمه الله عاش كغيره، ومات تاركا لها خيرا كثيرا.
الحارة التي يرفع الأذان بها من على ارتفاع دور، بمؤذنها ذي الصوت الحاد الشبابي متخرج أزهري هو الذي يؤمهم في الصلوات، الناس تتبرك بصوته وشخصه، ويحدث أنهم يرجعون اليه في أمور المتشابهات وما أدراك.
الأوتار التي اعتمد عليها الكاتب في انشاء قوام نسيج القصة,, ليس كاملا فيما ذكرت، وإنما أحببت الاشارة الى مكان الالتقاط، فالقصة,, لم يأت في خاطري مرة انني سأكتب عنها، فكيف أمثل بها في هذه المساحة المحدودة,, قلت، أفعل هذا كدعوة غير رسمية لحضور قراءتها,, اقرؤوها ثم حاسبوني خلفما تجدونها قد فاجأتكم!.
***
لأن الالتقاط الذكي المدجج بالمعرفة والرصد والاصطياد,, يقع في حبر قلم هذا الأستاذ الكبير,, لا تسألني عنه؛ فإنني اتحفظ على أمور عديدة في شخصه، ووجدت عنه ما يملأ السمع بالطين والعجين والصمغ والتراب، دعني الآن,, فأمامي عمل عظيم لكاتب أستاذ ، لا تقل عفا الزمان وتغير وجه المكان، ولم يعد لنا ان تقرأ لكاتب بعثر أحباره منذ أول الستينات أو يزيد,, دعنا نقرأه، انه في عالم حي يدفع الكاتب والفنان للإبداع,, عالم ثري ممتلىء بالحكايا التي تحتاج الى من يصوغها فنا يقرأ، ويرسم، ويمثل، ويغنى - بضم أوله -، عالم يتوهج بالمواضيع اذا كنت مبدعا، يوسف ادريس عرف بقدراته كيف يحوله الى كتابة، ويحول الكتابة الى كلمات حية ترقص وتغني لتأخذك بتلابيب مشاعرك فتنسلخ، وأنت لا تدري في تفاصيل الحياة المصرية,, العالم المتدثر بالأعاجيب,, الكشف البارع لهذا العالم المغمور بالهم والتعب والانتظار انتظار ماذا لا تدري بالتحديد، بالأمل,, بالرجاء,, بانقضاء الليل وظهور رموش شمس النهار، بكل ما تتوقع وما لا تتوقع، وبما لا يمكن ان تتوقع أو لا تتوقع، لكنك لن تعرف عالما دون كتابة,, سيكون يوسف ادريس واحدا من أساتذة القصة تجاه هذا العالم الذي لا يظهر لك غير سحنته الظاهرة، وبهرجته الضاحكة المضحكة في المسرح والسينما وأفلام المسلسلات الرخيصة حتى العار.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
اليوم الوطني
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved