في اطار الحديث عن العولمة تثار اشكالية العلاقة بين العولمة والسيادة الوطنية، فاذا كانت العولمة في ابسط معانيها هي الانتقال الحر للسلع والخدمات والمعلومات بين الدول فان ذلك يعني الحد من سلطة الدولة وقدرتها على التحكم فيما يرد اليها من العالم الخارجي، الأمر الذي قد يقلص من سيادة الدولة على اراضيها ويفتح المجال لمراجعة مفهوم وحدود السيادة من الناحيتين القانونية والسياسية.
واذا انتقلنا الى المجال الاعلامي فانه من الصعب التسليم في ظل الاعلام المعولم بمقولة السيادة الاعلامية، كما كانت تستخدم قبل عدة سنوات، فالاعلام المعولم يعني ضغط المكان والزمان مع تقديم مضامين وصور متشابهة تعبر الحدود السياسية وتتجاوز الاختلافات الثقافية بين الشعوب، وتصل الى الناس اعتمادا على التقدم المذهل في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات ورخص اسعارها.
هذا الانتشار والتغلغل الاعلامي سيقتحم البيوت بدون استثناء او تصريح من الدولة حيث سيكون من الصعب وربما من العسير على الدولة واجهزة الاعلام الرسمية ان تسيطر على حجم ونوعية المضامين والصور والرموز المعولمة، ومثل هذه الوضعية تخلق اوضاعا جديدة وتثير اشكاليات جديرة بالدراسة والتحليل حول السيادة الاعلامية للدولة ودور الدولة في النظام الدولي والعلاقة بين الاعلام وقوة الدولة.
وتجدر الاشارة بداية الى أن الفكر السياسي الحديث قد حلل اهمية الاعلام والدعاية في مختلف النظم السياسية، وفي العلاقات الدولية وقد ظهرت في الثلاثينيات من هذا القرن كتابات مهمة تشير الى أن قوة الدولة تستمد من ثلاثة عناصر هي القوة العسكرية والقوة الاقتصادية وقوة الاعلام، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تنامى الاهتمام بالاعلام الدولي، ودور الاعلام في التأثير على سياسات الدول الاخرى,وعلى المستوى الوطني (المحلي) تزايد اعتماد الدولة القومية الحديثة على وسائل الاعلام بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي وتوجهاته الاجتماعية والايديولوجية، واستنادا الى التحليل البنيوي فان وسائل الاعلام تعمل من اجل المحافظة على النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي القائم، كما تسعى الى المحافظة على النظام العام وتحقيق التوازن في النظام كله، علاوة على تحقيق التكامل السياسي او الايديولوجي اوالثقافي داخل أي نظام.
وبغض النظر عن تكييف دور الدولة فان هناك اتفاقا على ان الدولة هي فاعل رئيسي في النظام الاعلامي المحلي (الوطني)، وذلك من خلال تمتعها بوضع شبه منفرد واحتكاري لوظائف تنظيم ورقابة بيئة النظام الاعلامي على المستوى المحلي (الوطني) فهي التي تمنح تراخيص انشاء وادارة وسائل الاعلام، وتقوم بالتشريع وسن القوانين وتنفيذها، ثم الرقابة على تدفق المعلومات عبر حدودها القومية.
على ان هذا الوضع شبه الاحتكاري قد تعرض نتيجة التقدم المذهل في تكنولوجيا الاتصال الى هزة عنيفة، ضاعف من اثارها وتداعياتها تسارع عمليات عولمة الاقتصاد والدعوة الى توحيد الاسواق والخصخصة بما في ذلك خصخصة وسائل الاعلام والاتصال وتشجيع الاستثمارات الخاصة المحلية والاجنبية على العمل في مجالات الاتصال والاعلام والمعلومات.
لقد اصبحت كثير من قوانين ونظم الرقابة على تدفق المعلومات عبر الحدود القومية مجرد نصوص فارغة لامعنى لها، ولاتأثير حقيقي لوجودها بل اصبح مبرر احتكار الدولة لسلطة تنظيم بيئة الاتصال والمعلومات امراً ينتمي للماضي البعيد، لا الحاضر او المستقبل فقد كانت الدولة تتدخل في حقل الاعلام لمنع الاحتكار ولاستخدام الاعلام في ادوار اجتماعية اعتمادا على ندرة المجال (طبيعة موجات البث وقنوات التوصيل التي كانت تبدو نهائية) اما اليوم فان انفجار منافذ وسائل الاعلام وادوات التوصيل -اتصالات الالياف البصرية التي يمكنها حمل ملايين المعلومات والصور الرقمية وانظمة الكيبل التي تتسع لخمسمائة قناة اضافية والاقمار الصناعية- ومعه حبنا الحالي للاسواق وللخصخصة قضى على شرعية فكرة التنظيم العام ذاته.
هكذا سقط مبرر احتكار الدولة لقيادة وتنظيم النظام الاعلامي، كما تراجع دورها كلاعب رئيسي في النظام الاعلامي الدولي نتيجة الثورة التي احدثتها تكنولوجيا الاتصال والمعلومات, واصبح على جدول اعمال الجدل والنقاش الخاص بعولمة الاعلام والاتصال والمعلومات هو ما مستقبل دور الدولة؟ وهل يعني تقليص دورها في تنظيم بيئة الاتصال كفالة الحق في الاتصال وضمان حرية الاعلام ام مزيداً من القيود واللامساواة الناجمة عن سيطرة واحتكار الشركات متعددة الجنسية وهل يمكن دعم دور المجتمع المدني (الاهلي) كطرف ثالث يوازن الصراع الاحتكاري بين الدولة والشركات العملاقة؟
على ان نوعية هذا الجدل والنقاش الذي لم يحسم تكشف عن اربع حقائق تتعلق بتأثير عولمة الاعلام على الادوار الاعلامية (الاتصالية) للدولة على الصعيدين المحلي (الوطني) والعالمي، الاولي أن ثمة تراجعا في الادوار والصلاحيات الاعلامية (الاتصالية) للدولة، مع اتجاه متزايد نحو تخلي الدولة عن ملكية او دعم وسائل الاعلام والاتصال، مع تسارع الدعوة الى خصخصة وسائل الاعلام، انطلاقا من آليات السوق ومدى اقبال الجمهور على وسائل الاعلام- بغض النظر عما تقدمه من مضامين وصور -ستقود الى تطور وسائل الاتصال والاعلام وستكون المنافسة بين وسائل الاعلام في مصلحة جمهور المستهلكين.
الحقيقة الثانية: ان تراجع الدولة لم يرتبط بثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات فقط، بل ايضا نتيجة ظهور العلاقات عبر القومية، وازمة الآلية التي تنظم العلاقات بين الدول، الحقيقة الثالثة ان التراجع في دور الدولة عموما وادوارها الاعلامية خصوصا قد كان لصالح دور ومكانة الشركات متعددة الجنسية اولا- بغض النظر عن علاقات التعاون او الصراع التي تربطها بالدول الام- ثم وبفارق كبير مؤسسات المجتمع المدني ثانيا, الحقيقة الرابعة ان بيئة النظام الاعلامي (الاتصالي) الدولي تتحول من الدول كاطراف فاعلة بشكل رئيس الى الدول والشركات الاعلامية متعددة الجنسية، ثم وبفارق كبير ايضا مؤسسات المجتمع المدني (الاهلي) ذات العلاقات والانشطة عابرة القومية، ومثل هذا التحول في الاطراف الفاعلة في النظام الاعلامي الدولي ربما يفتح المجال لمراجعة كثير من مفاهيم ونظريات الاعلام او الاتصال الدولي، ولعل اهم هذه المراجعات هل نحن بصدد اعلام دولي ام اعلام معولم؟ فاذا كان الاعلام الدولي هو الاعلام او الاتصال العابر للحدود الدولية فان اي اعلام او اتصال جماهيري اصبح في العصر الحالي وبغض النظر عن اهدافه يعبر الحدود بين الدول والامم.
على اي حال فان الحقائق السابقة لاتقود الى القول بانتهاء دور الدولة تماما، بل قد يعني مراجعة الدور الاعلامي للدولة بهدف تحديثه وتطويره ليتماشى مع حقائق ومتغيرات عولمة الاعلام وليستجيب لمخاطر وتحديات عولمة الاعلام، وعلى الدول العربية عبر وزارات الاعلام ومن خلال الجامعة العربية ان تناقش الموضوع من كافة جوانبه لتطوير الادوار الاعلامية للدولة واعداد خطط وبرامج للاشتباك الايجابي مع فرص ومخاطر العولمة.
* أستاذ الإعلام بجامعة عين شمس