كانت الطائرة تطير على استحياء في الثلث الأخير من الليل حينما استعد المسافرون لتمزيق صمت الليل,, اثينا هي المحطة الأولى التي تلثم المسافرين بعد ان ودعوا (جدة) على أمل اللقاء بها مرة أخرى,, ودعوها وهم يرددون (سبحان الذي سخر لنا هذا,,,).
جاء الفجر وكانت اليونان تستيقظ على تداعيات أرسطو، وابتكارات سقراط وجنون ابقراط، جاء الفجر والمسافرون على رحلة واحدة، ما أجمل اللقاء بلا ميعاد,, ساعات,, كل الذي يفصل المسافرين عن جسد اثينا الهاجع على كتف البحر ليعطي اثينا من عذوبته وتعطيه اثينا من جنونها ,, وقفنا فيها حتى مطلع الشمس بل واستمر الوقوف حتى صار ظل كل شيء مثله,, نادى الناس مأمور السفر، وكانت النية والأعمال بالنيات تتجه الى مدينة ممزقة,, متفائلة متشائمة، صاخبة، منظمة، راعشة، بل ومسافرة، رسمها عبثا أدونيس: (نيويورك ايتها المرأة الجالسة في قوس الريح شكلا أبعد من الذرة نقطة تهرول في فضاء الأرقام), (1).
كانت سماء نيويورك تبكي والمارة يتقون المطر بشمسياتهم التي تعبت منهم وتعبوا منها,, مخيفة جدا نيويورك هذه ومطمئنة جدا يسري الناس فيها سكارى ولكنهم يسيرون على ايقاع واحد,, ترى الناس مزدحمين وتقول يامعين وما إن تنتهي من الكلمة إلا وقد تلاشت الزحمة وحلت الرحمة وانساب الماء على مجراه,, نيويورك مدينة متحركة ضاجة تنوي حمل العالم وتحكم بمضاجعة الوقت، ولكنه يفر منها كما يفر الماء من اصابع اليد العليا والسفلى,, نيويورك عالم منظم ومتداخل,, توقفت لأسأل (سيدة بلغت من الكبر عتيا) وعندما أجابتني انصرفت شاكرا لها.
وبعد دقائق أخذت تبحث عني لأنني نسيت عندها (بعض الأوراق) كانت من بينها (المجلة العربية) فاستدلت ان الأوراق لي من خلال المجلة فشكراً للسيدة وللمجلة!! صالة المطار في نيويورك كريش الهدهد ضمت بضعة وسبعين لونا من الجهات الاربع فتبارك الله أحسن الخالقين بجواري الآن شاب اسود يتراقص طربا ومن ورائه فتاة في العشرين بدأت تكتب وأظنها مازالت تعيش أحلام المذكرات وجماليات الصداقة وتخبطات الحب وفوائد السفر الخمس والست,, وبين الشاب والفتاة سيدة أكل عليها الدهر وشرب، اتخذت مكانا قصيا لتسترق من بين هذه الضجة فرصة برتقالية تدعى (النوم) ولا غرابة (فالنوم جدع الحمير والبغال) الآن وقفت فتاة ذات حسن وجمال ومال.
وأخذت تتلصص على ما أكتب ولكن بقيت (اللغة تفرق بيننا في مضاجع الفهم والحديث والقراءة) هنا يجب ان اتوقف عن الكتابة فمأمور السفر ينادي الناس الى مدينة (سانت لويس) وانا واحد منهم فوداعا ياصديقي الذي تجحظني بعينيك ولقاؤنا على أرض (سانت لويس)!!
هامش:
1/ راجع أدونيس الأعمال الكاملة ص 297/2.
|